أجور الأطباء.. بين نقابتهم وجمعية حماية المستهلك !
جاء في الانباء مؤخراً أن نقابة الاطباء قررت رفع اجور اطبائها في القطاع الخاص فاعترضت جمعية حماية المستهلك مطالبة باشراكها في وضع لائحة الاجور الجديدة ! وقبل ان يغضب المرضى على النقابة لانها تريد أن ترفع الاجور أو يفرحوا بتدخل الجمعية ظنا بأنها سوف تقف الى جانبهم، اجد من واجبي ان ابيّن أن الاثنتين – النقابة والجمعية – مخطئتان من حيث المبدأ وإن اختلفتا في الموقع والوظيفة، وذلك بأن اروي قصة الاجور الطبية من اولها وهي قصة طويلة بدأت قبل نصف قرن حين حاولت النقابة في عام 1966 أن تتصدى لهذه المهمة الشائكة ومهدت لها بقرار يقضي بأن يعلق كل طبيب في مكان بارز من عيادته قائمة باجور الفحص وأي إجراء تشخيصي أو علاجي او جراحي يقوم به، وقد اعتبره الاطباء قراراً مهينا وواجهوه بموجة عارمة من الرفض والسخرية فمات في مهده، وفي عام 1980 فوجئت الاوساط الطبية بتعديل على قانون الصحة العامة ينص على أن تشكل وزارة الصحة لجنة لوضع قائمة باجور الاطباء تشارك النقابة في عضويتها، وجرى تطبيق هذا القانون (التدخلي) الغريب الذي لم يكن له مثيل في الاردن ولا في الدول الأخرى اللهم الا إذا كانت شمولية ! وحين قيل في تبريره أن هدفه حماية الفقراء من جشع اطباء القطاع الخاص هب هؤلاء لشجب التهمة واعترضوا على القانون لكن نقابتهم لم تؤيدهم! وقد شابَ التطبيقَ كثيرٌ من الفوضى والتحايل والانحراف والتخبط، وبقي التوتر سائداً بين جميع اطراف المعادلة حتى عام 1986 حين قامت وزارة الصحة نفسها (في عهدٍ آخر) بالغاء هذه المادة من قانونها إيماناً منها بان تدخل الحكومة في أجور الاطباء دون باقي اصحاب المهن الحرة أو سواهم هو عمل غير دستوري وغير ضروري لاسيما وأنهم في هذا البلد لا يحتكرون معالجة المرضى فالقطاع الصحي العام جيد ويوفر الخدمات الطبية بكل انواعها لاكثر من 85% من المواطنين، مجانا أو باجور رمزية، أما الباقون فقادرون ماليا على تحمل اجور اطباء ومستشفيات القطاع الخاص.
وقد وافق مجلس الأمة على مبررات الألغاء واستجاب لبرقيات عدد كبير من الاطباء تطالب به.. وهنا عند هذه النقطة المفصلية اندفعت (!) نقابة الاطباء استناداً الى نص (ضعيف) في قانونها لتتولي مهمة تحديد الاجور بحجةٍ ظاهرُها تنظيم المهنة وباطنها سياسة غير معلنة توحي بموقف اجتماعي معين، مع أن هذا النوع من التحديد يمكن أعتباره عكس ذلك تماما لأنه في الواقع اجبار المواطنين على دفع اجور لم يقررها اطباؤهم ولم يطلبها كثير منهم وهو ما يخالف روح الدستور ومبادئ العدالة الاجتماعية، وقد استمرت النقابة في ممارسة سلطتها(!) في وضع قوائم الاجور الطويلة والمفصلة والمتشعبة التي تشمل مئات الفحوص والاجراءات والعمليات الجراحية اعتماداً على اجتهادات شديدة التباين وتقديرات معرضة للخطأ من قبل عدد من الاطباء الاختصاصيين يكلفون بذلك وتكون النتائج بالغة التعقيد والارباك اذ أن النقابة وهي ترضي بها عددا من الاطباء فانها تتسبب في استياء ونقمة عدد آخر منهم وتثير حتماً غضب الرأي العام، كما تجد نفسها تواجه الخيبة والهزيمة أمام شركات التأمين الطبي التي ترفض التقيد بتلك الاجور عند التعاقد مع الاطباء بل تضع قوائمها الخاصة على قواعد العرض والطلب اذ لم تستطع مجالس النقابة المتعاقبة أن تفعل شيئا ولا يزال الوعد بالزام شركات التأمين باجور النقابة يتكرر كل عامين في بيانات مرشحي انتخابات النقابة.. ثم لا يتحقق.
أما جمعية حماية المستهلك التي لي في ادائها رأي معلن منذ وقت طويل ولا أنوي الخوض فيه الآن، فقد اخطأتْ ايضاً عندما دخلت على الخط (!) بحجة حماية المرضى من مغبة انفراد النقابة بفرض اجور قد تكون باهظة عليهم، وهو تدخل لا يقره القانون ولا يعقل أن تقبل به نقابة تحترم نفسها، كما انه يذكرنا بمناقشة قانون الصحة في مجلس الامة عام 1986 حين اقترح بعض النواب أن (يُدخلوا) الى لجنة تحديد الاجور ممثلين عن الاتحاد العام للجمعيات الخيرية ونقابات العمال ومؤسسة الضمان الاجتماعي وعند طرح الاقتراح على التصويت فشل فشلاً ذريعاً.
وبعد.. قد يتوهم البعض أن وقوفي ضد (تحديد اجور الاطباء) متناقض مع انتقادي كل الوقت للجشع الناشئ حتماً عن انفلات الاسعار في اقتصاد السوق، والاطباء والمستشفيات في القطاع الخاص جزء من هذا السوق، لكن قراءة متأنية للمقال تزيل هذا الوهم وقد تهدي زملائي في نقابة الاطباء لاختيار الطريق الأصوب.