وَقْفُ الحديقة
كان قدرنا السعيد أن نحظى بسكنى جبل (الميامين) الذي يطلُّ مباشرة ًعلى وادي السلط، لنتمتع من دون الناس، بأكثر المناظر الخلابة ونشتم أروع النسمات الصافية، ونسمع أجمل أصوات العصافير صباحاً،بينما تتنقل بين شجر التوت وشجر التين،والرمان والليمون،ولا يشقُّ نعومة ليالينا إلا صوت خرير الماء الذي ينصبُّ منزلقاً من عين السلط وعين الجادور عبر الوادي،وشغبٌ تحدثه ضفادع لا نراها من مساكننا، وثعلبٌ في وكر ٍيصيح ،وبضع ُكلاب ٍتحوم حول الوكر، وتنتظره ليخرج فتقطعه إربا.ً
ذات يوم أو ليلة من الدَّهر، حَـوَّلَ رجل محسنٌ يسمى( عبد الرحمن أبي حسان) أحد البساتين في الوادي إلى حديقة للأطفال،لمَّا أراد أن يتصدق بخلاف عادة الناس؛ فأشفق على أطفال السلط وعائلاتهم الموؤدة ، أن يبقوا بغير حديقة!.
مات الرجل عليه رحمة الله،بعد أن استخلف على الحديقة التي وَقَفَها للمتنزهين وأطفالهم(بلدية السلط) فقامت البلدية بتأجيرها (لمستثمر ألعاب) وصار الطفل لا يحق له إلا أن يدخل وينظر بعينيه، ثم أُخْرِج َ المستثمر منها،فغدت يباباً إلا من أرجوحة يتيمة وأخرى لا يوجد عليها ما يتأرجح به وحديدة صدئة يتزحلق عليها الاطفال السذَّج.
ثم سارت السنين وهي على حالها الكئيبة، حتى عاد (أبناء المحسن) إليها ورمموها وأعادوا إليها نضارتها، والبلدية تنظر بإعجاب ولم تنتظر أحدا ليكمل فرحته.
فأهدتها لمستثمر (أفراح ) وصارت بلاء لا يطاق، فكل خميس يجتمع
فيها أهل عرس وتنصب مكبرات الصوت، فيرتج الوادي ويتصاعد
الضجيج؛ وحيث أن الوادي محاط ٌمن كل جهة فهو يبدو (كالبوق) ونحن
نربض في أعلى البوق والصوت يصلنا مضاعفاً.
فَتَعَكَّرَ صَفْوُ ليالينا ، ولُذْ نا بالجدران الصمّاء في حمأة الصيف هربا ًمن الضجيج،فاخترقها الضجيج الأرعن ،فلا نهنأ بحياة ولا بنوم ولا بصلاة حتى تنقضي ليلة العرس المشؤوم.
وصار يوم الخميس وبعضاً من الجمعة ملغيا ًمن حياتنا فمن استطاع أن يهرب هرب، ومن لم يستطع مكث على الضيم، الذي يوشك أن يتفجر بركاناً، في كل بيوت الأحياء التي تعلو الوادي .
في العام الماضي قدمنا شكوىً خرساء، وصُمَّتِ الآذانُ عنها، بعدما صُمَّتْ آذاننا، وجمع كل ُّأهل بيتٍ ملء كف من الرصاص الراجع، وأمضينا ليالينا تحت السقوف الملتهبة.
لكن رئيس البلدية قال بأن الأمر كبير، فقالت كل نساء الحي بأن كل أمر عليه كبير، وقالت أخريات بل هو عاجز عن هذه الشكوى فقط، وأخريات أردفن فورا بل هو مغلوبٌ مغلوبْ.
لكن رجال الحي ألحُّوا على محافظ المدينة، وقال أقواهم شكيمة :ًفليوقف المحافظ هذي المهزلة! ووعد المحافظ خيراً ! …… وقال نسوة في الحيِّ تغيَّر المحافظ ولم يتغير شيء، لكن رجلاً من البلدية جاء متخفيا ًوقال :أن في تأجير الحديقة ثمة شبهة!
وقال آخر- كان متكئا على السور- :كيف تُؤَجِّر البلدية وقفاً للأطفال؟!
ثم عاد إلى نفسه وأجاب: لابد بأن رئيس البدية سوف يتشدق بجواز التأجير للوقفِ فثمة حيلةٌ في القانون، او لابد أنه سيقول كان ذلك من قبلي والأمر معقود ٌولابد من إنفاذ العقود……………………..لكن عزائم كل رجال الحي بدأت بالغليان، فأجمعوا على العودة للمحافظ الذي لن يفعل شيئا ….
وإلى الآن …………ثمة عجوز تعاني من ارتفاع الضغط قد باتت في المستشفى هربا من (عرس الحديقة) وطالبٌ يكدح في التحضير للامتحان قد حزم الكتب وذهب إلى بيت خالته في الحارة الأخرى، ومُصَل ٍقد أجَّل هذي الليلة قيامه واكتفى بالاستغفار،عندما عجز القطن في أذنيه أن يمنع صوت المطرب الذي يصرخ بأنكر الأصوات ولا تنفع الاستعاذة في طرده من الوادي،بعد أن طرده كل السامعين من قبل ما عدا المرغمون منهم،والذين فروا مسرعين حفاظا على آذانهم .
وثمة طفلٌ يتلوى من الألم ويفزعه كلما غفا صوت الآلات النشاز، وثمة من يتربص من شباب الحي ليحلُّوا معضًلة باتت تهدد آذاننا….فمتى سنعيش كالبشر ويفطن المحافظ ورئيس البلدية لوجودنا متى؟!ومتى سيفطن أبناء المحسن أن أباهم قد وقف الحديقة كي تكون ( حسنة جارية) فأحالتها البلدية إلى (خطيئة ثابتة؟!).