في حضرة الكرك
هل تعرفون كيف تتلاقى الأرواح، أو على الأقل كيف تتوارد الأفكار؟ لم أستوعب بعد رغم تجاربي في التلاقي والتوارد على مدى سنين حياتي، كيف يحدث ذلك، ولا تفسير لي إلا أنه إلهام من الله جل شأنه، فقد كنت اتفقت مع صديق عمري الحبيب إياد الكركي أن أتوجه غداً الجمعة إلى الكرك للسلام عليه بعد سنين طويلة من البعاد، والسلام على والده الكريم المربي الفاضل الأستاذ خليل الكركي.
قررت أن أحرر نفسي من كل رابط من أجل إنجاز هذه الرغبة، وإشباع هذا الحنين إلى توأم الخليل، فقد أرسل لي صديقي إياد قبل أسابيع رسالة نصية يدعوني فيها أن أتوجه إلى الكرك، لنقف معاً على ذراها الشماء، ونسلم من قريب على العم خليل، ومن غير بعيد، على جبال الخليل.
غفوت ليلة أمس وأنا أحلم، وأحدث نفسي أن أتصل عند الصباح بمعالي أخي الأستاذ محمد داودية لدعوته أن أدخل الكرك بمعيته، وهكذا اتصلت به بعد أن ارتديت ثيابي، وأنا أستعد للخروج، ولكني لا أعرف إلى أين، وعندما بدأت بدعوته إلى الذهاب معاً إلى مدينة الأجواد، وزيارة المربي الأخ الأستاذ خليل الكركي، قال لي على عجل أنه على موعد بعد 15 دقيقة مع معالي الأستاذ خالد الكركي رئيس مجمع اللغة العربية الأردني، وهو من رجالات لا تحتاج إلى تعريف، وكنت قد تواصلت مع معالي الدكتور خالد قبل أسابيع وكان قد أجرى عملية جراحية بسيطة في العينين، ويقضي فترة نقاهة.
عندما سمعت أن أخي الأستاذ داودية يهم بالخروج من مكتبه في «الدستور» لزيارة معالي «أبو عبد الله» – يجوز القول أنه «أبو زيد»، أو «أبو جعفر»، فقد ولد الثلاثة دفعة واحدة بفارق دقائق معدودة.
رجوت الأستاذ داودية أن يصحبني، فرحب بي، وانتظرني، وتوجهنا معاً إلى صاحب «منازل الأرجوان»، و»الرونق العجيب»، و»رجع الصهيل»، فمقام مُجالسة العالم اللغوي، والشاعر، والأديب، والكاتب، والسياسي العتيد، هو «مقام الياسمين». استقبلنا الرجل بتواضع العلماء كسنبلة مليئة ذهبية اللون، وتجاذبنا أطراف الحديث.
حدثنا مضيفنا عن «سنوات الصبر والرضا»، بروحه الوثابة، وعزمه الشديد، وأمله الكبير، كقلبه الكبير، وهو يعكف على خدمة العلم واللغة والمعرفة في هذا الموقع الجميل؛ مجمع اللغة العربية، ويهدينا «لسان العرب الاقتصادي»، للمبدع عبد الرزاق بني هاني، الخبير الاقتصادي، والأستاذ الجامعي القدير، ويهدينا «معرفة محنة الكحالين» ليوحنا بن ماسويه، الذي قام بتحقيقه الأستاذ نشأت الحمارنة، طبيب العيون الأردني، والأستاذة اكتمال رجب، الباحثة السورية في اللغة العربية وآدابها.
غداً سنزور، صديقي داودية وأنا مقامات الصحابة الأجلاء عبد الله، وزيد، وجعفر يا «أبا عبد الله»، وغداً سنحل ضيفين على شقيقك «أبا إياد»، مدير مدرستك في الثانوية؛ مدرسة الكرك الثانوية، ومعلمك للغة العربية، وسنسلم على شهداء مؤته، وعلى «مِحنا»، أو «العدانية»، كما تغير الإسم، ولا أعرف لماذا تتغير الأسماء، وسنعبر على مقام الشهداء في المزار الجنوبي، ونقف على ذرى قلعة الكرك المؤابية، نحيي جباه رجالها الأبية، وصباحات نسائها البهية، وأشجارها الندية.
والله من وراء القصد
(الدستور)