غيبوبة قومية !
من تبقى على قيد الرشد قبل بضعة أعوام ولم يستخفه الطرب كان عليه أن يتحمل اتهامات تنوء بحملها الجبال والجمال معاً، فالمشهد كان في أكثر من مكان أشبه بحفلة تنكرية، بحيث ارتدت ثعالب أقنعة الأرانب وتنكرت صقور سرعان ما افتضحها الهديل المصطنع والكاذب.
ولم يكن من تشبث بوعيه يدافع عن حالة الاستنقاع التي يعيشها العالم الذي ينتمي إليه، وربما كان سباقاً إلى الحلم والتبشير بعواصف التغيير لكن الروائح التي تسربت في تلك الأيام استطاع الأنف المثقف أن يحزر مصادرها، خصوصاً بعد صدور تصريحات متعاقبة عن القياصرة الجدد وسادة الدبلوماسية ذات الخوذة، حول إعادة رسم التضاريس وخطوط الطول والعرض لهذا الوطن تبعاً لمقياس رسم طائفي، وكان الهدف أخيراً هو امتطاء موجة الغضب المشروع وتجييرها باتجاه آخر، طالما حددته بوصلة الاستشراق.
في تلك الأيام كان البقر كله أسود كما يقول هيجل لأن اللحظة لحظة غروب، واختلط الأمر على العيون الكليلة، فظنت أن الغسق شفق. كانت أسباب الغضب والانفجار على وشك الاكتمال، والمخاض العسير في الطلقة الأخيرة، لكن القابلة أحياناً تخون وقد تستبدل المولود أو تخنقه تبعاً للطلب والأجر!
ولو قدر لذلك الغضب أن يتنامى عضوياً لكانت الثورة هي بديل الفوضى والوئام الوطني بديل الانقسام. لكن الحرب التي اندلعت بين الأمهات الكاذبات ومدعيات الطفل في الحكاية السليمانية انتهت إلى تمزيق الطفل وتحوله إلى أشلاء لأن الأم الحقيقية صمتت، أو صدقت بأنه ليس ابنها.
ما من مرة تراكم فيها الغضب وتصاعدت فيها شهوة التغيير حتى قفز إلى المشهد من يخلط الأوراق ويسطو على الحلم وبالتالي يسرق دموع الناس وعرقهم وحتى دماءهم.
لقد مضى وقت طويل لم يكن فيه فك الاشتباك متاحاً لأحد لأن البوصلة أصابها عطب مؤقت وظن لصوص المتاحف والبنوك والمخطوطات أن الدولة قد تلاشت، وعاد الجميع إلى الغاب والكهف لكن ما انتهى إليه المشهد رغم تعقيده وتعدد زوايا النظر إليه هو باختصار أن الدولة ليست اسمهاً مستعاراً للنظام، وأن الحرية ليست امتلاك الحق في قطع الطريق والسطو المسلح والتخوين السريع والإعدام المعنوي.
ولا ندري من يعتذر لمن بعد كل هذا الخراب؟ ما دامت الخسائر موزعة بالتساوي بين الجميع رغماً عنهم!