عيون واشنطن الثلاث في الشـرق الأوسط
في خطابه أمام خريجي كلية “ويست بوينت” العسكرية الأمريكية، تحدث الرئيس باراك أوباما حصراً، عن معيارين مقررين لشكل ومستوى علاقة بلاده مع أكبر دولة عربية: جمهورية مصر العربية … المعيار الأول، حفظ التزامات مصر الأمنية المؤسسة على معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية … والمعيار الثاني، حرب مصر على الإرهاب، والتي هي في نهاية المطاف، فصل من كتاب الحرب على الأمريكية على الإرهاب في العالم.
محددات العلاقة الأمريكية – المصرية، تكاد تنسحب على علاقات واشنطن مع مختلف الدول العربية … أمن إسرائيل ومحاربة الإرهاب، يضاف إليها في حالة الدول المنتجة والمصدرة للنفط، أمن الطاقة وطرق إمدادها وأسعارها … مما يعيدنا دوماً إلى التعريف المتداول لثالوث المصالح واشنطن في المنطقة العربية: إسرائيل، النفط والحرب على الإرهاب … بهذه “العيون الثلاث” فقط، تنظر الولايات المتحدة إلى هذه البقعة من العالم.
بخلاف هذه المحددات / المصالح، تبدو بقية الملفات من نوع نشر قيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان بما فيها حق الشعوب في تقرير مصيرها، تفاصيل ثانوية، وأوراق يمكن إبرازها حيناً وإخفاؤها في أحيان كثيرة، ودائماً، بما يخدم المصالح/المحددات الثلاث المذكورة، في الأساس، ولا يتقدم على أي منها.
“جودة” أي نظام عربي، تقاس بما يقوم به من أدوار في هذه الميادين … أمن إسرائيل أولاً، أما التطبيع معها فيضيف إلى رصيد الحاكم والحكومة العربيين أسهماً جديدة، بما يجعله مثالاً للحكمة والاعتدال …. الحرب على الإرهاب، في مختلف أرجاء المعمورة، وليس داخل الحدود الوطنية والقومية فحسب، يجعل من أي حكومة وحاكم، مثالاً للحليف والشريك الاستراتيجي الملتزم، الذي “يشاطرنا قيمنا ومبادئنا” … أما الاستمرار في إنتاج النفط وإغراق الأسواق به (دع عنك الغاز)، فهذا ما يجعل من أي نظام، عنصر استقرار للسلم العالمي، وليس للأسواق العالمية.
ماذا عن حقوق العرب، شعوباً وقبائل؟ … لا أحد يكترث البتّة … فلسطين محتلة منذ العام 1948، وأعداد اللاجئين الذين لا يعرفون مستقبلاً لهم، فاقت الستة ملايين لاجئ، يستقبلون هذه الأيام، الجيل الرابع من أبناء النكبة … ماذا عن حق الشعوب العربية في حكم رشيد ونظم ديمقراطية وأنظمة متخففة من الفساد والاستبداد، هذا أمرٌ متروك للأجيال والعقود القادمة، ربما بعدما ينضب النفط، وبعد أن “تشبُّ إسرائيل عن طوق الحماية والوصاية الأمريكيتين” … ماذا عن توق تطلع الشعوب العربية لاسترداد أراضيها المحتلة وحقوقها المصادرة، هذا أمر لا يستحق العناء، بدلالة بقاء ملف “إزالة آثار العدوان” مغلقاً منذ العدوان في حزيران عام 1967.
مصر الكبيرة، أم الدنيا، زعيمة العالم العربي وقائدته، لا تُرى بالعين الأمريكية سوى من زاوية إسهامها في حفظ أمن إسرائيل والولايات المتحدة، لا قيمة لها بذاتها، ولا معنى لتطلعات شعبها وأشواقه في “العيش والحرية والعدالة الاجتماعية” … فما بالكم حين يتعلق الأمر، بدول صغيرة، “لا خيل عندها تهديها ولا مال”، كيف تنظر واشنطن لهذه الدول وحكوماتها وأنظمتها وشعوبها؟ … هل تختلف هذه النظرة عن الكيفية التي تتعامل بها الإدارة مع “بلاكووتر” على سبيل المثال لا الحصر؟!
لم تختلف هذه النظرة عند انتقال الرئيس لشرح الموقف الأمريكي من الأزمة السورية … هناك ديكتاتور، لا دور له في مستقبل سوريا، لا ندري عن أي مستقبل يتحدث، المباشر، المتوسط أم البعيد المدى، لا حديث عن “تغيير النظام”، حتى وهو (الرئيس أوباما) يعرض فكرة تسليح المعارضة “المعتدلة” وتدريبها، فوظيفة هؤلاء المعارضين المدربين جيداً على يد المخابرات المركزية ووحدات النخبة في الجيش الأمريكي، هي محاربة الإرهاب في سوريا، وعدم السماح لـ “داعش” و”النصرة”، بالاستحواذ على مناطق سيطرة المعارضة … ماذا عن الأزمة السورية؟ … ماذا عن عشرة ملايين سوري نازح ولاجئ؟ …. هذه الأسئلة لا تشغل بال الإدارة الأمريكية، فالأزمة السورية مطلوبة بذاتها، واستطالتها أمر مرغوب فيه، طالما أن كل يوم يمضي في عمرها المديد والمرير، يأتي محمّلاً بأنباء القتلى من معسكر الخصوم، وكل من يُقتل في سوريا، هم خصوم لواشنطن، من النظام “المارق” إلى حزب الله والقاعدة المدرجان في قوائم واشنطن السوداء للمنظمات الإرهابية.
جميع أزمات المنطقة، تُرى بهذه “العيون الثلاثة”، وبهذه العيون فقط، ولقد آن الاوان أن نتعلم الدرس، وندرك أن وضع البيض كلِّه في سلة واشنطن، لم يكن يوماً، خياراً حكيماً، وهو ليس كذلك اليوم ولا في المستقبل، وأن الوقت قد أزف لوضع أزماتنا وقضايانا على سكة أخرى … ولمن تساوره الشكوك فيما نقول، عليه أن يقرأ الفقرات الخاصة بإيران في خطاب “ويست بوينت”، هنا يجري الحديث عن “فرصة تاريخية”، وتلوح من بين ثنايا الموقف الأمريكي، استعدادات للتعامل بندية مع الجارة الإقليمية، وأخذ مصالحها وتطلعات شعوبها بنظر الاعتبار.
هم (الإيرانيون) فرضوا ذلك، ونحن أخفقنا، وعلينا أن ندفع الثمن، أقله حتى إشعار آخر.