المنظمة بعد خمسين عاماً على تأسيسها
باستثناء بيان ومقالة موجزة هناك، فإن الذكري الخمسين لتأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، تكون قد مرت بسلام، لا احتفالات ولا ضجيج، لا مراجعة ولا تقييم، لا حديث عن المنجزات، ولا استقراء لآفاق المستقبل، لكأننا أمام حدثٍ بسيط، في يومياتنا المزدحمة، علماً بأن أي فصيلٍ فلسطيني، بمن فيها تلك التي لا تحتفظ في صفوفها بعددٍ من العناصر والمؤيدين، يكفي لملء حمولة حافلة واحدة، يملأ الدنيا ضجيجاً وبيانات، في الذكرى السنوية لانطلاقته “المجيدة”، فهل بلغ “اليُتم” بالمنظمة، هذا الدرك؟ … أليس لها من بواكي أو من محتفلين بعيد ميلادها؟
مرور الذكرى على هذا النحو الصامت، يعكس المكانة التي آلت إليه منظمة التحرير في المنظومة “المؤسسية” الفلسطينية … كما تعكس “حيرة” الطبقة السياسية الفلسطينية في تحديد موقع المنظمة ومكانتها في هذه المنظومة … لقد أتى زمن، كادت فيه “السلطة” أن تبتلع المنظمة، ومع انسداد آفاق تحوّل السلطة إلى دولة، راهنّا وراهن كثيرون، على فرص إحياء المنظمة واستعادة دورها ومكانتها، لكن وضعية “الدولة غير العضو”، تحت الاحتلال، التي حصلت عليها فلسطين في الأمم المتحدة، أعادتنا إلى مربع الإرباك الأول، سيما حين يتعلق الأمر بسؤال الأولويات، وأيهما “التعبير الرسمي” عن وحدة الشعب الفلسطيني وهويته، المنظمة الشائخة أم الدولة غير العضو، الذي يسعى في استكمال شروط عضويته في المجتمع الدولي.
من يمثل الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني: المنظمة أم الدولة غير العضو؟ … هل يمكن لشعب واحد، أن يتمثل بكيانين، دولة ومنظمة؟ … هل يمكن لدولة لم تتحدد بعد ولايتها الجغرافية، لكنها وفقاً لأفضل السيناريوهات، لن تتخطى حدود الرابع من حزيران، أن تمد ولايتها الديموغرافية على امتداد خريطة الشتات والمنافي الفلسطينية، داخل الخط الأخضر وخارجه، داخل الوطن المحتل والمحاصر وخارجه؟ … هل يمكن الركون إلى “دولة غير عضو”، ما زالت قيد الاعتراف والقبول الدوليين، لتكون هي الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني، هل سيتعرف المجتمع الدولي بدولة كهذه، بهويتها وولايتها هذه؟ … في حالة كهذه، هل يمكن الاستغناء عن “الممثل الشرعي الوحيد”، هل أنجز هذا “الممثل” وظيفته بعد خمسين عاماً على تأسيسه؟ … أم أن وظائف أخرى تنتظر المنظمة، وما هي؟
هل يمكن التفكير بصيغة ووظيفة للمنظمة، على شاكلة وطراز “الوكالة اليهودية”، التي ما أن نجحت في إنشاء دولة الاحتلال والاستيطان والعنصرية، حتى تفرغت لتنشيط قضايا الهجرة والسيطرة على الأراضي من أصحابها الأصليين؟ … ما الذي يمكن للمنظمة أن تقوم به من وظائف، في معركة الشعب الفلسطيني المفتوحة من أجل الحرية والاستقلال؟
قبل قيام السلطة، وبالأخص بعدها، كانت المنظمة، وليس السلطة، هي حاملة “الختم” و”التوقيع” الفلسطينيين، وليس السلطة، باسمها أبرمت كافة الاتفاقات، وباسمها جرى تبادل الاعتراف مع إسرائيل … وباسمها وتحت رعايتها، نشأت سلطة الحكم الذاتي المحدود، المؤقتة والانتقالية … وبرغم غيابها عن مسرح العمل السياسي والنضالي في مختلف ميادينه، إلا أن المنظمة كانت تُستدعى دائماً، وفي كل مرة احتاج فيها الفلسطينيون للتوقيع على اتفاق أو وثيقة، هل سيستمر هذا الوضع، بعد حصول فلسطين على مكانة “الدولة غير العضو”؟ … وهل يصح بالذات، إن قررت”الدولة غير العضو”، المضي في طلب عضوية المؤسسات والمعاهدات الدولية ذات الصلة؟
ثمة اتجاه فلسطيني عام، يؤشر للتوافق الوطني حول “المتروك”، والمتروك هنا، هو السلطة بما أسبغ عليها من مكانة وأهمية وأدوار تتخطى حدود صلاحيتها واحتمالها، هذا لا يعني حل السلطة، وإنما إعادة تعريف لوظائفها … لكن من الصعب القول إن الفلسطينيين، متحدين أو متوافقين حول “المرغوب” به، والمطلوب تدعيمه في قادمات الأيام والسنين … هل نُنمي المنظمة ونفعّلها ونعيد هيكلتها ونبني مؤسساتها من جديد، أم أن المطلوب، السعي لبناء مؤسسات “الدولة غير العضو”، واستكمال عضويتها وتمثيلها … هل ما زلنا نفكر بإجراء انتخابات السلطة أم أنها ستجير للدولة، وماذا عن مؤسسات المنظمة؟
أسئلة وتساؤلات، يحمل كل منها دلالات وأبعادا، ويرتب مسؤوليات ونتائج وعواقب، سياسية وقانونية ونضالية، لا أحسب أن حواراً مجتمعياً فلسطينياً عميقاً يجري حولها … لكننا في الذكرى الخمسين لتأسيس المنظمة، نجد حاجة للقول، بأنها كانت خلال هذه العشريات الخمس، بمثابة وطن معنوي للفلسطينيين وهوية وعنوان، وهي نجحت في ترسيم وجودهم على جغرافيا المنطقة، بعد أن تعرضوا للغياب والتغييب والمصادرة والتبديد … واليوم، أكثر من أي وقت مضى، تبدو الحاجة ماسة، لإعادة النظر في قراءة وتحليل “المنظومة المؤسسية” أو النظام السياسي الفلسطيني، وكلما كان ذلك أسرع وأعمق وأشمل، كلما كان ذلك أفضل من منظور مستقبل كفاح شعب فلسطين من أجل حريته واستقلاله.