مسلمون بلا «زعامة» اخلاقية..!!
هل يوجد للمسلمين زعامة تمثلهم ، او مرجعية تتحدث باسمهم ، السؤال ليس جديدا ، فكل الدعوات التي انطلقت للتقريب او للوحدة بين المسلمين ، كانت تبحث عن اجابة عملية حاسمة على هذا السؤال ، ومع ان المسلمين – دون غيرهم – يتفقون على كتاب واحد ونبي واحد ، ويجتمعون على اصول ثابتة وان اختلفوا في بعض الفروع والتفاصيل الا ان ذلك كله لم يشفع لهم بابداع مرجعية تحظى باعتراف العالم واحترامه ، او تؤثر في احداثه ، او تنتزع حقوق المنتسبين اليها منه ، صحيح ان لدينا فقهاء وعلماء ومجامع ومؤسسات دينية ، لكن المقصود بالمرجعية، سواء كانت مؤسسة او زعامة دينية يتجاوز هذا الموجود بما فيه من تعددية واشتباك واستقطاب للاتفاق على مرجعية روحية عابرة للمذاهب والمدارس والاتجاهات الفكرية ، يشارك فيها علماء ومفكرون وسياسيون ، وترتفع فوق الخلافات والاختلافات السياسية ، وتجتهد في جمع كلمة المسلمين واستنهاض طاقاتهم والدفاع عن قضاياهم ، دون ان تصادر حريات الناس او ان تفرض عليهم اجتهاداتها ، ودون ان تتحول الى سلطة دينية كما حدث لدى غيرنا ، فمهمتها الاولى اشاعة ثقافة الائتلاف ، ومهاد حركتها القضايا الكبرى وهدفها بناء الوحدة العلمية ووضع الامة على طرف من الندية في علاقتها مع الاخرين.
هل يمكن ان اقول بان المسلمين بحاجة الى بابا او زعيم روحي يحظى باحترام العالم وتقديره ، او ان اتساءل عن سر غياب النموذج الانساني الاسلامي المعاصر ، بصراحة ما يدفعني الى ذلك مسألتان : احداهما تتعلق بالحفاوة التي يحظى بها بابا الفاتيكان لدى معظم اتباع المسيحية والغرب عموما ولدى العالم كله،فبيد بابا الفاتيكان مفاتيح قوة سحرية لا يمتلكها غيره . ورغم التهميش الذي تعرضت له الكنيسة، منذ اكثر من قرنين، ما يزال الرجل، قويا: معنويا على الاقل، فصوته مسموع وكلمته في الدفاع عن حمى اتباعه ودينهم مقدرة ، وهو ما لا يتوفر للمسلمين ،اما المسألة الاخرى فتتعلق بما اشعر به من مرارة حين ارى ان المسلمين تحولوا الى ايتام ، وحين اسمع عن نماذج لقرى فاضلة في اوروبا يزيد عددها عن 12 قرية نجح اخواننا المسيحيون في انشائها ، وحين اقرأ عن الام تريزا وعن غاندي ومانديلا وغيرهم من النماذج الانسانية المعاصرة واتذكر انه كان لدينا نماذج – وما اكثرها- عبرت عن انسانية الاسلام وعن عدالته و منعته وسماحته ، لكنها تبدو اليوم غائبة ، اشعر بالمرارة – اي والله – لأنني ادرك ان النزعة الانسانية في الاسلام تحتل مساحة واسعة جدا ، لدرجة ان الخطاب القرآني يضع مفهوم الانسان في مقابل مفهوم الله تعالى ، باعتبار الانسان خليفة له سبحانه وحاملا لأمانته، ومكلفا بعمارة كونه، وباعتبار ان كل ما في الوجود مسخر لخدمته.
بدأنا بالمرجعية الاسلامية الغائبة وانتهينا بالنماذج الانسانية الغائبة ايضا ، واحسب ان المسألتين ترتبطان ببعضهما ، فالامة التي تعجز عن انتاج خطابها الانساني ، والدفاع عن حضورها الكوني، واستيلاد نهضتها وحضارتها ، لا شك بانها ستكون عاجزة عن ابراز مرجعية توحدها ، وزعامة تتحدث باسمها ومشروع تتميز به عن غيرها ، وتتدافع من خلاله لمشاركة العالم في مسيرته ، ولانتزاع ما تستحقه من مكانة فيه.
ترى:هل يحتاج المسلمون الى بابا يعوضهم عن هذا اليتم الذي يشعرون به، هل نحتاج الى فاتيكان آخر يعيد لهذه الامة حضورها وهيبتها بعد ان سقطت دولة الخلافة وطويت معها آخر احلام الامة، برفع المهانة عنها واستعادة ما فرطت به من كرامة وحضور.
ارجو ان لا يفهم من هذا الكلام انني ادعو الى “بابوية” اسلامية، فانا اعرف انه ليس من حق احد في الاسلام ان يدّعي القداسة، او ان يوقع بالنيابة عن الله تعالى، لكن مشهد الاعتزاز الذي يحظى به”البابا” الكاثوليكي، والتعاطف العالمي الذي اشهرته وسائل الاعلام مع هذا الرجل اينما حل وارتحل، تجعلني اتساءل – بمرارة – عن سرّ غياب مثل هذا النموذج الديني والانساني على صعيد عالمنا الذي يصل عدد المسلمين فيه الى مليار ونصف مليار مسلم؟
ومع ان العالم المسيحي ليس موّحداً شأن العالم الاسلامي، لا على الصعيد المذهبي والديني ولا على الصعيد الجغرافي والسياسي، فان ذلك لم يمنع من الالتفاف حول رجل بحجم “البابا”، ، فيما لا نجد في عالمنا الاسلامي من يحظى بمثل هذه المكانة، الى درجة يشعر فيها المسلمون “باليتم” الحقيقي، حين يبحثون عن “زعيم” بمكانة أب روحي،او اخ كبير او مرجعية يلوذون اليها ويتفقون عليها، وتشكل لهم “السلطة الاخلاقية”، ولغيرهم الرادع الاخلاقي، بكل ما يعني ذلك من تقدير واحترام وصوت مسموع.
ومن اسف – أننا كمسلمين من شتى المذاهب – لا نختلف على ضرورة قدوم “المهدي” او المخلّص، لتدشين الطريق نحو “الآخرة” لكننا لم ننتبه الى ضرورة الاتفاق على وجود هذا المهدي الآن، او استدعائه لعمارة “الدنيا” التي حفلت بما نعانيه من هوان وخراب.. فلم لا نسارع “لصناعته” اذا لزم الامر، ما دام ان غيرنا – رغم كل خلافاته واختلافه – يواجه العالم بمثل هذه السلطة الاخلاقية التي يحوزها رجل لا تكاد دولته توازي مساحة حيّ واحدٍ من احياء مدننا الصغيرة..(مساحة دولة الفاتيكان تبلغ 0.44 كم مربع ويقارب عدد سكانها 1000 نسمة فقط ) وما دام انه بهذه السلطة يستطيع ان يقول ويؤثر في كل قضايا العصر، وفي كل الذين يمسكون زمام القرار في عالمنا الذي اصبح عاجزاً عن عزل الدين عن ابسط تفاصيل حياته وممارساته!
نقول: ما احوج المسلمين الى “زعامة “اخلاقية معتبرة (لا يهم هنا الاسماء والمسميات وسواء اكانت مؤسسة او شخصية مقدرة) في وقت يتصيد الآخرون فيه كل كلمة، ليدرجوا المسلمين على قائمة “الارهاب”، وفي زمن لا يجد فيه عالمنا الاسلامي سوى الترويج للتسامح والاعتدال لاقناع الآخر بأننا بشر اسوياء، وبأن ديننا لم يقم على السيف ولا يؤمن – اصلاً – بالعنف والدماء..