الاستدارة التركية … مكرهٌ أخاك لا بطل
لم تعد تركيا قادرة على الاستمرار في سياسة “الإنكار” … العالم بأسره، يعرف أنها “دولة الممر” لعشرات ألوف الجهاديين من شتى أرجاء الأرض … هؤلاء يأتون بمعرفة المخابرات التركية وتسهيلاتها … كل الضجيج الديماغوجي الذي اعتمدته أنقرة سياسة لها، لم يعد مجدياً … وثمة مؤشرات، أن تركيا لم تعد قادرة على احتمال الضغوط الدولية في هذا المجال … ولقد رصدت المعارضة بمدارسها المختلفة، تحولات مهمة في “الأداء” التركي على امتداد الحدود مع جارتها الجنوبية.
في الأنباء، أن الحدود التركية – السورية، لم تعد “سائبة” كما كانت عليه في السنوات الثلاث الأخيرة … حرية الحركة والتنقل لم تعد بتلك السلاسة والسهولة … الحواجز الترابية العالية، تمنع تنقل الأفراد والآليات … المخابرات التركية، باتت أكثر حذراً في تتبع حركة القادمين والمغادرين، وفي رصد المناطق الحدودية …. حتى القوات الشيشانية، التي ترتبط بعلاقات مباشرة مع المخابرات التركية، باتت تواجه صعوبات في الحصول على الإمداد البشري والتسليحي واللوجستي.
مصادر صحفية لبنانية، تنقل عن معارضين سوريين، أن المخابرات التركية، قامت في الأشهر بتسليم بعض قادة “المجاهدين” الأجانب إلى مخابرات دولهم … وزادت على ذلك، أنها قامت بتصفية عدد منهم، حتى لا يحملون مستقبلاً اسم “العائدون من سوريا”، ويعيثون قتلاً وتخريباً في دولهم وبلدانهم … يبدو أن صورة الموقف التركي تتغير، ميدانياً، رغم احتفاظ أنقرة بذات “الرطانة” السياسية والإيديولوجية في حديثها عن الأزمة السورية … والتبدل في الموقف التركي، ليس إرادياً ولا اختيارياً، أنه التبدل تحت ضغط دول الإقليم التي سبقت أنقرة في إحداث الاستدارة ، فضلاً عن القلق الأمريكي – الأوروبي من تحول سوريا، إلى ملاذ آمن للقاعدة، أكثر خطورة مما كان عليه الحال في أفغانستان عشية الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، كما صرّح بذلك، مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية.
بروكسل أيضاً، كانت في الأيام الأخيرة، ميدانياً نشطاً من ميادين الحرب الإرهاب، واستتباعاً، ميادين الضغط على “دول الممر”، وبالذات تركيا، لتشديد إجراءاتها في مكافحة الإرهاب … الوزيرة البلجيكية النشطة في هذا المجال، والتي سبق أن التقيناها في زيارتها الأخيرة لعمان، كانت الأكثر حماسةً، لشد أواصر التعاون الإقليمي والدولي في مواجهة خطر “الجهاديين” في سوريا، وتحديداً ذوي الأصول الأوروبية، ودائماً عندما يؤتى على ذكر هؤلاء، تذكر تركيا بوصفها دولة “ممر”، وهي كذلك في الواقع، فضلاً عن كونها دولة “منبع” لهؤلاء، فثمة جهاديون أتراك نشطون في سوريا، والأهم، لتركيا علاقات وطيدة مع إسلاميي دول القوقاز وآسيا الوسطى (الحوض التركي) الذين تدفقوا بالمئات إلى سوريا، وهم الأشد فتكاً وضراوة في المعارك والقتال، وهم الأقرب إلى أنقرة، التي تعرفهم واحداً واحداً، وبالاسم والصوت والصورة.
على أية حالة، ثمة ما ينبئ بأن ستاراً سميكاً سوف يسدل على تلك الحقبة السوداء في العلاقات بين سوريا وجارتها الشمالية … وكما قلنا، مكرهٌ أخاك لا بطل … وثمة ما ينبئ بأن أدوار دول الإقليم في الأزمة السورية، تتراجع لصالح القوى الدولية، التي بدأت تستشعر خطر ما يجري في سوريا، على أمنها القومي … وهوامش المناورة أمام اللاعبين العرب (الخليجيين) والأتراك، تبدو ضيقة للغاية.
صفقة حمص، التي قيل إن قطر لعبت دوراً مهماً في إبرامها، ومن خلال “الجبهة الإسلامية”، تشي بصورة أولية، بوجهة التغيير والتبديل في مسار تطور المواقف الإقليمية من الأزمة السورية … والموقف الأمريكي الذي أحاط الجربا وصحبه، بالرعاية البروتوكولية، قبل أن يخبرهم بقرار واشنطن رفض تزويد المعارضة بالأسلحة النوعية “الكاسرة للتوازن”، وقبل أن يذكرهم بدورهم في محاربة الإرهاب، المقدمة على محاربة الأسد من منظور واشنطن، حرص أشد الحرص على القول، بإن لدى إدارة أوباما ما يكفي من الأوراق لجلب الأسد إلى مائدة الحوار والتفاوض، ولم تقل لقلبه أو إخراجه من السلطة.
في هذا السياق، يمكن فهم الاستدارة التركية على الحدود وفي الميدان … وفي هذا السياق، يمكن تفهم التحولات في المواقف العربية من الأزمة السورية … وربما في هذا السياق، يمكن فهم الإعلان غير المعلل، عن تأجيل الاجتماع الطارئ لوزراء الخارجية العرب الذي كان مقرراً انعقاده غدا في الرياض، للبحث في تطورات الأزمة السورية.
الحرب السورية آلت إلى حرب قتل وتدمير، في الوقت الضائع، فاستحالت حرباً عبثية، تزهق فيها الأرواح على مذبح الانتظارات الطويلة … انتظار التوافق الدولي بين روسيا والولايات المتحدة، بعد أن يهدأ غبار الأزمة الأوكرانية … والتوافق السعودي – الإيراني، الذي ما زال عرضة للصعود والهبوط، بيد أنه لم يعد خارج جدول الأعمال، خصوصاً في ظل الأدوار النشطة التي تقوم بها مسقط والكويت، لرأب الصدع ومد الجسور على ضفتي الخليج.