الفلسطينيون ودرس المواجهة الأول
للمرة الثانية خلال أسبوعين فقط، تصدر عن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري، تصريحات مثيرة لغضب الإسرائيليين: المرة الأولى، عندما حمّل حكومة نتنياهو القسط الأوفر من المسؤولية عن فشل مهمته، قبل أن تعود «ناطقة أمريكية» لتوضيح الأمر بما يؤكده، ولا ينفيه … والمرة الثانية، عندما حذّر من تحول إسرائيل إلى نظام «أبارتهيد» إن هي فشلت في تمكين الشعب الفلسطيني من ممارسة حقه في تقرير مصيره في دولة مستقلة، لتصبح هي نفسها، دولة المواطنة متعددة الدرجات، وبما يتعاكس مع سعي إسرائيل إلى «دولة يهودية»، كاشفاً عن بناء إسرائيل 14 ألف وحدة استيطانية جديدة، طوال أشهر المفاوضات التسع، وبما يجعل من المتعذر على أي مسؤول فلسطيني الاستمرار في التفاوض تحت ظلال هذه «السحابة الداكنة» … «الناطقة» ذاتها، عادت لتوضيح تصريحات كيري، بما يؤكدها ولا ينفيها، مستشهدة هذه المرة، بأقوال مشابهة لأقوال الوزير، سبق أن صدرت عن قادة إسرائيليين كبار.
بخلاف حكومة نتنياهو، لا تبدو الإدارة الأمريكية شديدة القلق من قرار المصالحة … ما يهم واشنطن، هو أن تنتهي المصالحة إلى حكومة تحفظ التزامات السلطة والمنظمة، بصرف النظر عن المواقف الخاصة لكل مكوّن من مكوناتها … تل أبيب ترى خلاف ذلك، وتريد كدأبها، وضع العصي في دواليب العملية السياسية، إذ تشترط اعترافاً صريحاً بها، يصدر عن حماس بالذات، والأرجح كـ «دولة يهودية»، مع وقف العنف ونبذه، والتزاماً بالاتفاقيات التي أبرمتها السلطة سابقاً مع إسرائيل … حكومة نتنياهو تطلب من حماس، ما لم تطلبه هي من بعض مكوناتها التي لا تعترف بحقوق شعب فلسطين التاريخية الثابتة، بل وما زالت تنكر وجوده، وتمارس عنفا نازياً ضد قراه وبلداته، على أيدي قطعان المستوطنين الغلاة.
لا يبدو أن واشنطن بصدد اتخاذ عقوبات اقتصادية ومالية ضد السلطة والمنظمة، على الرغم من توقف المفاوضات وقرار المصالحة، ربما سيحاول بعض أعضاء الكونغرس، مدفوعين بضغوط «اللوبي الصهيوني» فعل ذلك … حتى إسرائيل، ستتوقف ملياً أمام عواقب أية عقوبات من شأنها أن تدفع السلطة إلى حافة الانهيار، إذ على الرغم من ضجيج التهديد والوعيد، فإن إسرائيل تدرك في سريرتها، أن زمن العقوبات العنصرية الجماعية، قد ولّى، وأنها لم تعد طليقة اليدين، تفعل بالشعب الفلسطيني ما تشاء، فعالم اليوم ليس هو ذاته، عالم ما قبل سنوات وعقود… دع عنك مصلحتها في بقاء السلطة واستمرارها.
إن ذلك لا يعني بحال من الأحوال، أن السلطة لن تتأثر بمواقفها وقراراتها الأخيرة، والرئيس عباس توقع أشهراً صعبة سياسياً واقتصادياً ومالياً، وهذا أمر يستطيع الفلسطينيون احتماله، بل ويمكن ان يكون مفيداً في مواجهتهم المفتوحة، مع سلطات احتلال التي بدأت تفقد «شرعيتها» على الساحة الدولية، ولم تعد سيدة المسرح العالمي بلا منازع … هذه الصورة تهتز، وثمة كثيرون في هذا العالم، ضاقوا ذرعاً بإسرائيل وجرائمها وصلفها وعنصريتها.
على أية حال، ثمة درس رئيس، يمكن استخلاصه مما حدث ويحدث، ألا وهو: أن الفلسطينيين قد يكونوا عزلاً من السلاح، بيد ن لديهم من الأوراق ما يكفي لأن يقضّوا على إسرائيل مضاجعها، وأن يتسببوا لها بألم شديد، والقاعدة هنا «إن يمسسكم قرحٌ فقد مسّ القوم قرحاً مثله» … والفلسطينيون ليسوا ضعفاء إلى الحد الذي يجري تصويرهم فيه وعليه، بل وإلى الحد الذي يتصورون فيه أنفسهم في كثير من الأحيان … وفي المقابل، فإن إسرائيل ليست كليّة القدرة والجبروت، ومواقفها وقراراتها، ليست قدراً لا رادّ له … وإن المطلوب رفع منسوب الثقة والإيمان بالنفس والقضية والحق، مشفوعاً بإدارة حكيمة وعاقلة للصراع مع الاحتلال على عقول العالم وقلوبه وضمائره … وأن واشنطن لا تمتلك 99 بالمائة من أوراق الحل والعقد والربط، وأن لدينا في هذا العالم من الأصدقاء والحلفاء، ما يجعلنا قوة لا يمكن القفز من فوقها أو التلاعب بحقوقها.
إن أكثر ما يدعو للألم، هو وقوف الفصائل الفلسطينية على اختلافها، موقف العاجز والمتردد عن خوض غمار المقاومة الشعبية السلمية، ولقد دفع هذا الرئيس عباس، إلى شنّ هجوم لاذع عليها من على منصة المجلس المركزي لمنظمة التحرير، لم يستثن منه حركة فتح التي يرأسها، لتقاعسها عن القيام بأدوار ملموسة في تصعيد المقاومة الشعبية ضد الجدار والاستيطان والاحتلال، ولهذا اكتفى بتوجيه التحية للشباب والفتيات، الذين أخذوا على عاتقهم هذه المهمة، حتى الآن على أقل تقدير.
ثمة روح جديدة، تنبعث في الجسد الفلسطيني المتعب والمثخن بالجراح … وهي روح يمكن البناء عليها وتطويرها إلى حالة استنهاض للحركة الوطنية الفلسطينية … لكن هذه المهمة لن تنجز من تلقاء ذاتها، فهي بحاجة لحوامل سياسية واجتماعية، لا تبدو أنها متوفرة لمعظم إن لم نقل لجميع الفصائل التي عرفنا، ما يعيدنا من جديد إلى سؤال: هل ستهب رياح «الربيع العربي» من جديد على فلسطين، وأية أشكال ستتخذها، أية أهداف ستسعى في تحقيقها، وأية أدوات وروافع ستحملها، وكيف يمكن تصريفها في مواجهة الاحتلال، حتى لا نعود من جديد، إلى دوامة الانقسام ومربعه الأول المقيت.