لكيلا تبقى معان أزمة مفتوحة …!!
بكل حزم يجب أن نواجه ( الخارجين على القانون) ، وبأعلى صوت يجب أن ندين العنف الذي يستهدف الأرواح و الممتلكات ، لكن لابد أيضا أن نجيب عن سؤالين اثنين: أحدهما من هم هؤلاء الخارجون على القانون ، ومن أين جاءوا ولماذا تركناهم ( يعبثون) في المدينة حتى تحوَّلوا إلى ( مسلحين) وقطاع طرق؟ أما السؤال الآخر فهو : لماذا تتكرر مشاهد العنف في مدينة معان دون غيرها، ولماذا صمتنا لمدة عقدين وأكثر على ( أزمتها) وهل صحيح أن مشكلة معان أمنية بامتياز أم سياسية في المقام الأول؟!
فيما يتعلق بالسؤال الاول اعتقد أن غيري من ( المطَّلعين) أقدر مني على تقديم ما يلزم من إجابات دقيقة عليه ، ومع أنني أدرك تماما أن أية مدينة لا تخلو من ( المجرمين) إلا أن اختزال ( معان) تحت هذا العنوان ، علاوة على أنه غير صحيح ، فإنه يضرُّ ايضا بسمعة المدينة وأهلها ، ويجرح كرامة المواطن الاردني الذي يعتقد أن ( الأردنيين) في معظمهم اسوياء وطيبون ومحبون لوطنهم ، كما أن هذا الاختزال يكشف عن ( عجز) أمني في معرفة هؤلاء ومراقبتهم و القبض عليهم ايضا ، لكن في موازاة ذلك لابد أن نشير الى مسألتين : إحداهما أن ثمة امتدادات للتيار السلفي الجهادي في معان ، وأن مثل هذه الامتدادات ما كان لها أن تحدث لولا وجود ( تربة) جاهزة تشجع على التطرف، وهي قضية تحتاج نقاشا طويلا حول أسبابها ودوافعها وما فعلناه لمحاصرتها ، أما المسألة الثانية فهي أن الاعتماد على الحل الأمني لمواجهة مثل هؤلاء لا يكفي ، ذلك ان ( استيعاب) الشباب الذين لديهم قابلية للانحراف أو الاخرين الذين تورَّطوا في الجريمة والتشدد، يحتاج كما فعل غيرنا الى ( افكار) ومشروعات ( دعك من المراجعات للذين اخطأوا) تستوعب طاقاتهم وتملأ اوقات فراغهم وتقنعهم بأن البناء أفضل من الهدم، كما أن الحياة أنبل وأفضل من الموت.
أما الإجابة عن السؤال الثاني فتحتاج كثيرا من الشرح و التوضيح ، ويمكن – هنا- الاسترشاد بما تضمنه التقرير الذي صدر عن مركز الدراسات الاستراتيجية (1993) وجاء فيه ان ( معان ليست حالة خاصة أو استثنائية في المجال الاقتصادي من حيث الفقر و البطالة و تواضع الخدمات ، فهي تتشارك مع غيرها من المحافظات الأردنية في هذا الهم ، ولكنها حالة خاصة في بنيتها الاجتماعية حيث تنعدم الثقة بين معظم أهلها وبين مؤسسات الدولة ، وحيث يغيب التنسيق حول واقعها ومشكلاتها بين أجهزة الدولة ايضا ، وحيث تسببت سياسات الانحيازات الرسمية لبعض نخبها التي لا تمثلها في تفاقم أزمة الناس فيها ).
استأذن في نقطة نظام هنا، وهي أن الحديث عن أزمة ( معان) اقتصر فقط على عام واحد (1993) حيث صدرت اربع دراسات ناقشت الموضوع، وهي ( معان أزمة مفتوحة) لمركز الدراسات الاستراتيجية، و المشاركة السياسية وحدود الأمن و السلام الاجتماعي للزميل باسم الطويسي، وقلاقل متكررة في معان لمجموعة الأزمات الدولية ، وتقرير حكومي حول اوضاع معان أعدَّته آنذاك لجنة وزارية، ورغم ان الدراسات اتفقت على ( تشخيص الازمة) إلا أن الجهود توقفت تماما منذ ذلك الوقت …وكأن صفحة الازمة طويت رغم أن الأحداث تكرَّرت منذ ذلك عشرات المرات.
من الملاحظات هنا ان تقريري الحكومة ومجموعة الازمات أشارا الى إن من أسباب الازمة : ضعف الانشطة الاقتصادية وانخفاض المستوى المعيشي وأسلوب الاسترخاء الحكومي و الافراط في استخدام العنف المتبادل بين الحكومات و المواطن ( التقرير الحكومي أشار الى استخدام القوة المفرطة غير المبررة في معالجة الأمور) و التهاون في تطبيق القانون .
إذا دقننا أكثر فيما ذكرته هذه الدراسات سنكتشف أن ( ازمة معان) ظلت مفتوحة منذ العام 1993، وان الذين حاولوا مواجهتها اختزلوها في ( الحل الأمني) فقط، ومع ان تكلفة هذا الحل كانت باهضة ماديا ومعنويا ،وكان يمكن أن يتم ( استثمار) التكلفة في مجالات أخرى أجدى و أنفع ، إلا أن ثمة ( تعمدا) واضح في توظيفها لأهداف اخرى مغشوشة.
سنكتشف ايضا ان ربط الاستقرار و الأمن بالخوف معادلة غير صحيحة، ذلك ان استخدام القوة المفرطة التي أشار اليها التقرير الحكومي افرز من الناس اسوأ ما فيهم ، فيما كان من الممكن بل الضروري استبدال تلك المعادلة بحل ( العدالة) فقط، وهو حل جذري ، فبالعدالة يمكن (للأمن) ان يستتب، كما قال علي بن أبي طالب -كرَّم الله وجهه- للوالي الذي طلب منه المساعدة لبناء الحصون المدمَّرة بعد أن قلَّ الخراج: ( حصِّن ديارك بالعدل) .
سنكتشف ثالثا أن غياب السياسية عن ( معان) أسهم أيضا بتفاقم ( الأزمة)، كما ان محاولات اضعاف ( الوسائط) الاجتماعية المعتبرة افقد المجتمع المحلي قدرته على الحركة و الضبط و التدخل ، زد على ذلك ان الانتقائية بتطبيق القانون و التعسف في استخدامه احيانا اربك المشهد أكثر وأكثر.
باختصار، لا مصلحة لأحد في إبقاء ( معان) جرحا نازفا ، فنحن نخشى من معان ونخشى عليها ايضا ، ونحن نريد أن تتحول معان الى نموذج ( للتنمية)و البناء لا للعطالة و الهدم، والى مثال للسماحة و العفو – كما كانت دائما – لا الى منطلق للعنف و التشدد .. والى صورة للصحراء الجميلة لا الى صورة للصحراء القاحلة الطَّاردة و المُطاردة ايضا .