نريد ان نخاطب جمهورنا بـ (الحسنى)..!!
حين أخبرني الصديق العزيز حسام الغرايبة قبل نحو عام بانه يفكر باطلاق اذاعة جديدة ، تمنيت في اعماقي ان ينجح في مهمته ، ليس-فقط – لانني اثق بقدراته على تقديم ما هو افضل استنادا الى تجربته السابقة في هذا المجال، وانما ايضا لاننا بحاجة فعلا لمن يملأ “اثيرنا “ بأصوات ومضامين تسعدنا وترشدنا الى الصواب ، وسط هذه المناخات الاعلامية الملبدة بالصراخ والضجيج ،وبحاجة ايضا الى اعادة الاعتبار للاعلام النزيه الصادق لكي نطمئن على سلامة وعينا واذواقنا وعلى عافية مجتمعنا ايضا.
لم يخب ظني -بالطبع- فقد ولدت قبل نحو شهر اذاعة (حسنى) ، وتعمدت في صباح كل يوم ان اتابع برنامجها الصباحي (صوتك حر ) ، ومع كل حلقة كان ثمة سؤال محمّل بالامل يراودني : هل ستخاطب (حسنى ) جمهورها من المستمعين بالحسنى ؟ ولان لهذه الكلمة: حسنى،وقعا خاصا في وجداني ،خاصة وهي تتردد عشرات المرات في القرآن الكريم على اوجهها المتنوعة والمدهشة معا ، كان السؤال يلح علي بحثا عن اجابة ، واكاد اقول وضميري مطمئن تماما بانها نجحت في الامتحان حتى الان .
الحديث عن (حسنى ) الاذاعة له علاقة بالكلام عن الاعلام في بلادنا، واستأذن هنا بتسجيل اربع ملاحظات ، الاولى هي انه لا يوجد وظيفة للاعلام أهم من وظيفة حماية “بوصلة” الدولة ، والحفاظ على عقلها ورعاية هويتها ووجدانها ، ومتى انحرف الاعلام أو انسحب أو تباطأ عن النهوض بهذه المهمات ، استبد الخوف بالمجتمع ، وتغلغل الانحراف داخله ، وتأرجحت البوصلة بين اليمين واليسار.ولعل سؤال الاعلام ، بما له وما عليه ، هو سؤال الدولة ، أية دولة ، ان اجابت عليه بوضوح واجتازت امتحانه ، أصبحت مؤهلة للدخول في معمعة الاصلاح ، بأشكاله ، والحداثة ، بأنواعها ، ومطمئنة – تماما – الى سلامة خطابها وحسن أدائها ، وعلاقتها مع مكوناتها ومع خارجها ومحيطها.. أما اذا فشلت فيه ، فقدرها أن تراوح مكانها ، وتبتدع في تقديم مبرراتها ، أو تغلق آذانها عن اي انتقادات أو اسئلة محرجة تأتي من هنا وهناك.
الملاحظة الثانية هي ان لنا تجربة طويلة مع “الصراع على الاعلام” ، وبلادنا عاشت هذه التجربة ، وأدركت خطورتها ، ولعل السجالات التي تنطلق اليوم لنقدها تبدو مطلوبة في سياق طي صفحتها والمساهمة في الخروج منها أو عدم تكرارها ، لكن ذلك لا يمنع من الاشارة الى نقطتين: أولهما ان تحرير اعلامنا من هذا الصراع الداخلي يحتاج اولا الى تحريره من صور الخلل التي تكمن داخله ، وهذه يمكن اختصارها في ثلاث قضايا: المشكلة المعرفية ، والمشكلة المهنية ، وعلاقة الاعلام مع جمهوره.. ، اما النقطة الثانية فهي الدعوة مجددا الى ترسيم العلاقة بين الاعلام والحكومات ، وبينه وبين المجتمع وسائر المراكز والمؤسسات ، والترسيم هنا لا يحتاج الى مجرد “نصوص” ، وانما الى “روح” تضع العلاقة على سكة “القيم” والتقاليد ، وتؤسس “لحالة” من الاعتراف والاحترام المتبادل التي لا تتغير مع تغير الظروف والاحوال.
الملاحظة الثالثة هي ان نقد الاعلام اصبح اليوم بمثابة (واجب الوقت) لكن هذا النقد يجب ان يشمل مسارين احدهما ذاتي والاخر موضوعي ،على صعيد الخلل الذاتي الذي يتحمل الاعلام مسؤوليته فان أسوأ وظيفة يمكن لـ”الإعلام” أن يمارسها هي الابتزاز، وقد تابعنا – فعلا – نماذج من تلك “المهمات” المغشوشة التي تحوّل الإعلام فيها الى “خصم” غير نزيه، وطرف يتقصّد الهجوم بشكل مباغت، فإذا “قنص” فريسته وضعها في “ميزان” المقايضة، فإما أن تستسلم لمطالبه وتدفع “الخاوة” وإما أن تنتظر ما يمكن أن يفعله من ترويج لـ”أنباء” غير صحيحة، أو تهشيم للصورة، أو اغتيال للشخصية أو المجاهرة بالسوء، والابتزاز هنا يلخص مشكلة الاعلام باعتباره عنوانا لكثير من الاخطاء التي وقع فيها الاعلام ، لكنه غير منفصل عن الشق الموضوعي ، حيث مسؤولية الحكومات المتعاقبة التي حاولت ان تضع الاعلام (تحت السيطرة) وان توظفه وتستخدمه لاغراض غير نزيهة، ورغم انها ظلت تحمّل “الإعلام” مسؤولية كل شيء، لكنها لم تسمح لـ”البيت” الإعلامي بأن يرتب نفسه أو أن تمنحه ما يلزم من آليات لانتزاع حريته واستقلاله ليتمكن من معاقبة “الدخلاء” الذين استقووا عليه وعلى المجتمع ايضا. ومثلما دفعت وسائل الإعلام “النظيفة” ثمن أخطاء “بعض المحسوبين على المهنة”، دفع المجتمع ايضا من سمعته وتماسكه واستقراره الاجتماعي والاقتصادي ذلك الثمن، وإذا كان ثمة طرف قد ساهم بإشاعة اجواء الكراهية والضغينة، وإعاقة ما يمكن ان ينطلق من مبادرات لـ”التوافق” السياسي، و”تشويه” صورة المؤسسات التي يفترض ان تحترم، و الإطاحة بـ”سمعة” الشخصيات النظيفة ودفعها الى “الانزواء” أو الاستقالة من العمل العام، فإن أهم طرف توجه اليه أصابع الاتهام هو “الإعلام” الذي انبت عن رسالته، وانقاد لغرائزه ومصالحه، وضحى بمصداقيته،وهنا اصبح الاعلام متهما وضحية في ان معا ، ومن واجبنا ان ندعو الى تحريره ليصبح (سيد نفسه) و تتلازم حينئذ مسؤولياته مع صلاحياته،ذلك ان حرية الاعلام التي تخرج من رحم “استقلاله” والاعتراف بسلطته الاخلاقية ودوره التنويري والرقابي وكرامة العاملين فيه واحترامهم هي “العنوان” الصحيح الذي يجب ان نذهب اليه اذا كنا نريد “التغيير” واعادة ثقة الناس بالاعلامي ورهانهم على “ضميره” ايضا.
اما الملاحظة الاخيرة فهي تتعلق بشقين احدهما :اهمية وخطورة الكلمة ،خاصة حين نسمعها على الاثير الاذاعي (دعك مما تعبر عنه الصورة في المرئي)والكلمة ليست مسألة بسيطة كما قد يتصور البعض للوهلة الأولى، ولكنها أهم ما يمكن أن نستحضره حين نتحدث عن أي خلل يتسرب إلى عقول أبنائنا فيدفعهم إلى الانحراف تارة أو إلى سوء الفهم والعمل تارة أخرى ، او حين نتأمل فيما اصاب مجتمعاتنا من انقسامات وارتباكات وتراجع وتخلف ،عندها تصبح الكلمة أقوى من الرصاصة … لا بل ومن المتفجرات التي تخط رسائل القتل والخوف والدمار، فإذا كان مطلوبا منا أن نواجه ثقافة التطرف والتكفير والفساد مثلا بالكلمة، فأرجو أن نعترف مسبقا أن تلك الكلمة تحتاج إلى إعادة نظر في معظم ما ألفناه من سياسات و مقررات على صعيد مهادنا التعليمي والتربوي …والسياسي والإعلامي، والثقافي والاقتصادي أيضا.اما الشق الثاني فيتعلق بالخطاب الاسلامي -على اختلاف مستوياته- والحديث عنه طويل لكنني أشير فقط الى الفرص لا التحديات ، فبوسع هذا الخطاب اليوم ان يتحرك نحو فقه اعلامي جديد ينقل تديننا من حالة “الطاعة” الى “الاحتجاج” ومن السكون الى الحركة ومن التقليد الى الابداع ومن ممالاة السياسة الى الاشتباك معها، ومن التحالف مع السياسي الى التعامل الندّيّ معه، وباختصار الى فقه جديد يضع “الانسان” المكرَّم في المقام الاول وينتصر لقضايا الناس وأولوياتهم ويتصالح مع العصر ومستجداته وينهي حالة “الانقسام” والشرذمة التي اصابت مجتمعاتنا كما اصابت العمل الاسلامي في مقتل، ويمهد لمرحلة جديدة من المساكنة والعمران بين الناس مع بعضهم وبينهم وبين الآخرين في العالم.
شكرا لاذاعة (حسنى )،وارجو ان تكون ألهمتني لاقول شيئا من الحسنى ايضا..!