العروبة بين الغسق والشفق
قبل ثلاثة أو أربعة عقود كان مجرد نشر استطلاع صحفي حول الهوية العربية ومفهوم العروبة من المحظورات بل هو خط احمر بالنسبة لبعض الاطراف الذين يرون بان هوية العربي ووجوده التاريخي دائرتان لهما مركز واحد، لكن الزمن تغير وتسربت الشكوك الى كل ما كان يدرج في خانة البديهيات والمسلمات ، وبلغ الامر الى الحد الذي صدرت معه كتب تنعى العروبة وتودعها بشماتة، وكان هذا النعي متزامنا مع نعي التاريخ ذاته حسب اطروحة فرانسيس فوكوياما، اما ذريعة هذا الوداع الشامت فهي ما حدث في العراق في حربي الخليج الثانية والثالثة.
مؤخرا قدمت مجلة المستقبل العربي استطلاعا حول العروبة ووعي الهوية القومية كانت نتائجه حاسمة في ان العروبة لم تتحول الى طلل او مقتنى متحفي، فاكثر من سبعين بالمئة من العينات يرون ان الغرب يحاول على الدوام وفي كل المراحل اعاقة الوحدة العربية وان الاستعمار رغم تبدل اشكاله يبقى رهينة للمرجعية التقليدية ذاتها.
وقد تكون الاحداث التي نتجت عن الحراك العربي في اطاره القومي خلال الاعوام الثلاثة الاخيرة نقطة تحول جديدة فقد عادت القواسم المشتركة الى الشارع وتوحد الشعار الهادف الى التغيير لكن ما صاحب هذا الحراك من محاولات اجهاض واختطاف وتجيير جعل المشهد مشوبا بالكثير من الدخان والغبار، غير ان الدلالات تبقى قائمة ومستمرة لتؤشر الى حقيقة لا سبيل الى العبث بها وهي ان العروبة لم تمت والعرب لا يعيشون كما يرى البعض حقبة ما بعد العروبة والتي تعني بالضرورة ما بعد الوطنية، فمعظم المصطلحات الرائجة والمتداولة الان هي من افراز معجم العولمة، فكل شيء بلا حدود، رغم ان الحدود قائمة وان كانت غير مرئية بالعين المجردة.
والمسألة ليست مجرد تمديد صلاحية لمفهوم تاريخي وجغرافي ووجودي كالعروبة بقدر ما هي تجديد واعادة صيانة وليس صياغة للجوهر، فالمتغيرات الدراماتيكية التي عصفت بالعالم ومنه العرب تفرض اعادة قراءة واعادة تحليل لما آلت اليه التضاريس السياسية في كوكبنا، خصوصا بعد انفجار المؤجل من المكبوتات الاثنية والطائفية التي اوشك انفجارها ان يكون حربا عالمية ثالثة لكنها حدثت بالتقسيط وليس بالجملة.
ان طرح سؤال العروبة وما يقترن به من سؤال الهوية وهاجسها فرضه في هذا الوقت ثقافة تجاوزت العولمة الى التعويم بحيث اصبح كل شيء في مهب الشكوك والاستخفاف والقرائن التي ترشح من استطلاعات او من حراك سياسي في النطاق القومي تقدم اطروحة مضادة لاطروحة الوداع والنعي، وكأن العرب اخذوا عن بعيرهم صفة التَّماوُت المؤقت.