روما: امبراطوريّة في «متحف»..!!
اربعة ايام في روما، لا تكفي –بالتأكيّد- للإستغراق في تفاصيل المدينة ومعالمها او التدقيق في وجهها التاريخي والحضاري لكنها –بالنسبة لي- كانت فرصة لمصافحة المدينة ،والخروج من حالة “الملل”، والاستئناس بالتاريخ ،واستعادة الهدوء النفسي الذي افتقدته على مدى السنوات الماضية وما رافقها من ضجيج سياسي واجتماعي، وفرصة ايضاً لمراجعة افكار ومسلمات “تأصلت” داخلنا حتى اصبحت جزءاً من شخصيتنا وحياتنا، وقد اسعفنا في “استثمار” هذا الوقت القصير حضور السفير الاردني في روما السيد زيد اللوزي الذي رافقنا على امتداد الرحلة، وجمعنا على العشاء في منزله مع العديد من الشخصيات السياسية والفكريّة، وأحاطنا ومعه موظفون في السفارة (الصديق محمد الحسبان خاصّة) بالاهتمام والحفاوة التي عكست قيمة السفير الحقيقي حين يمارس مهمته الانسانية والدبلوماسية ايضاً.
كان لقاؤنا الاول في “الفاتيكان” مع احد ابرز الكرادلة المعنين بملف العلاقات الاسلاميّة المسيحيّة والحوار بينهما، وكان يساعده الاب خالد العكشة وهو أردني الجنسية،وفيما طرح الكردنال رسالة عمان كأرضية مناسبة للحوار وكمبادرة تستحق الاهتمام والبناء،ردّ عليه وزير الاوقاف الدكتور هايل داوود التحية مستعرضاً دور الاردن من الحوار ومضاميين رسالة عمّان…ثم انصرفنا لزيارة كنيسة القديس بطرس، وبعدها زيارة المتحف الكبير الذي انشأه البابا بوليس الثاني في القرن السادس عشر،وكنا في الصباح بدأنا يومنا بزيارة المركز الاسلامي والتقينا بمديره الذي اطلعنا على قصة بنائه بتمويل من المملكة السعوديّة، وبتصميم احد الفنانيين الايطاليين، وبالدور الذي يقوم به في “مد” الجسور بين المسلمين في ايطاليا والحكومة والمؤسسات الاخرى، وأجمل ما في المركز اللوحات الفسيفسائيّة التي قام بها متخصصون مغاربة نقلوا من خلالها الفن الاسلامي في الاندلس،لكن مدير المركز فاجأنا حين ذكر بأن ميزانيّة هذه المؤسسة الكبيرة لا تتجاوز 300 الف يورو، وبأنها تأتي من دولة واحدة فقط وهي السعوديّة…وهي بالطبع لا تكفي.
حال الجاليّة الاسلاميّة التي يصل عددها الى نحو 2 مليون شخص في ايطاليا لا تختلف عن حال “المسلمين” في بلداننا العربية، فهي من اقل الجاليات تأثيراً (يوجد برلماني مسلم واحد وهو شاب مغربي)، وخطابها مازال مسكوناً بالهواجس والمخاوف، وتعاني من التشتت، وعلى الرغم من وجود أعداد كبيرة من الكفاءات العربية والاسلامية التي تشارك في الحياة العلمية والمهنية داخل روما، وإيطاليا عموماً ،فإن معظم المسلمين هنالك من العمال ومن دول آسيويّة، ويسجل هنا للجالية الاردنية ( عددها نحو 5 آلاف شخص) ان معظمها من الكفاءات المتعلمة حيث اقام معظم هؤلاء بعد ان أتمّوا دراساتهم الجامعية.
في احدى القاعات ببلدية روما كان لقاؤنا في اليوم الثاني لمناقشة موضوع الحوار بين الاديان ودور الاعلام فيه (وهو موضوع الندوة التي نظمها المعهد الملكي الديني للدراسات ضمن مشروع رسالة عمان وبمشاركة المعهد البريطاني والاتحاد الاوروبي) كان الحضور منوعاً بين مفكرين وسياسين وصحفيين ، وكان الحوار ثريا ايضاً، اللافت فيه ان ثلاثة اعلاميين ايطاليين (صحفتيان وصحفي) يعملون في صحف ومؤسسات اعلاميّة كبرى، قدموا شهاداتهم حول تناول “الاعلام” الايطالي “للإسلام” والحوار مع اتباع الاديان، وفهمت مما قالوه انهم يحاولون “دحض” فكرة “النمطية” التي يتبناها الاعلام هنالك لتقديم صورة المسلمين، لكنهم يواجهون صعوبات كبيرة نظراً لما تقدمه “الميديا” من احدات تعكس صورا سلبية مختلفة لما يفعله المسلمون،وخاصة في سوريا وأفغانستان وغيرها، ومما كان لافتاً ايضاً المداخلة التي قدمها السفير الأمريكي السابق في عمان حول “التطرف الاسلامي”، وهو ما دفعنا –وزير الاوقاف وأنا- للرد عليه على اعتبار ان هذا التطرف ليس نابعاً من الدين الاسلامي كدين وانما هو ردود افعال للبعض على ممارسات الظلم والاستبداد وهي بالطبع مرفوضة على الجانبين لكن الغرب يتحمل جزءاً من المسؤولية الاخلاقية عن تنامي هذه الظاهرة كما ان “المسلمين” يتحملون الجزء الآخر وخاصة في البلدان التي لم تتجه للديميقراطية ولم تسمح “للمعتدلين” ان يشاركوا في العمل السياسي..
على مدى اكثر من 5 ساعات استمر الحوار بين الطرفين، وكان لابد من تذكير الطرف الاخر بأن منطقتنا تمر بمرحلة تحول تاريخي وانتقالي، وأن حراكات الشعوب تعكس وعياً جديداً لكنه لم ينضج بعد، لكن المطلوب ان يفهم الآخر بأن هذه الشعوب تؤمن بالحوار، وتتطلع الى الديمقراطيّة، وتتشكك في مواقف بعض الدول الكبرى مما يجري داخلها من محاولات لاجهاض هذه التجربة الامر الذي يفرض اعادة تهيئة مناخات جديدة من الثقة والتعاون لانجاح اي حوار، لأن الحوار لا يستقيم الا اذا اقتنع الطرفان بأن هدف الوصول الى السلام هو مصلحة للجميع، وبأن العنف مضّر للطرفين، وبأن الحضارة الانسانية التي ساعم في بنائها الجميع لا يمكن الحفاظ على سلامتها الاّ اذا شعر الجميع بأنهم “شركاء” في التمتع بانجازاتها ايضاً.
اما مسؤولة الادارة الثقافية في بلدية روما فكانت محقة حيث اشارت الى دور”الثقافة” في بناء جسور الحوار، وذكرتنا بأن كل ما رأيناه في روما من “معالم” تاريخية ومن مسارح وأعمال فنية ونشاطات ثقافية تتحمل مسؤوليته البلديّة وهو –عبء ثقيل- لكنها – كما قالت بثقة – تقوم به وتصمم بمساعدة من حولها على انجازه لاسعاد اكثر من 70 مليون زائر لروما سنوياً.
في شوارع روما المزدحمة بالناس الذين ينتمون لمختلف الجنسيات والاديان والاعراق لا تكاد تجد اي ملامح “للتمييز” لا في الخدمات المقدّمة ولا في التعامل الاجتماعي ولا في غيرهما، ومن اللافت ايضا ان من بين نحو الف مواطن يوجد نحو 18 مقيما اجنبياً ويرتفع هذا العدد في بعض محافظات ايطاليا الى نحو 30 مقيماً لكل الف مواطن.
لاشك بأن من يتجول في شوارع روما، ستأخذه الدهشة وهو يطالع في كل زوايا آثار “الامبراطوريّة” التي اجتاحت العالم فيما مضى من قرون ، لكن وسط هذه الدهشة لابدّ انه سيتذكر تلك المقولة التي كانت تتردد على احدى بوابات روما في وجه المقاتلين العائدين: تذكر انك بشر.. ، ولا بدّ ان يتذكر” الكوميديا الالهية “التي كتبها دانتي، ومعها روايات البرتومورافيا واشهرها” امرأة من روما”، وايضاً كاتبها المسرحي لويجي براند يللو مؤلف “ 6 شخصيات تبحث من مؤلف “ وهذه الاخيرة تختصر اليوم صورتنا في هذه المنطقة التي ما تزال تبحث عن “مؤلف “ يخرجها من حالة التيه التي تورطت فيها.
غداً نكمل ان شاء الله.