روما : لقاء مع التاريخ..!! (1-3)
استأذن القارئ الكريم بأن اخرج من رتابة الكتابة التي حبستنا – معا – في اقفاص لا تسمح لنا برؤية أي شي خارجها ، لكي يرافقني في رحلة الى روما ، هذه المدينة التي لا تشبه الا نفسها.
الفندق الذي اقمنا فيه ( اسمه إليسو) يقع على بعد امتار قليلة من احدى بوابات حديقة ( فيلا بورغيزي) التي تمتد على مساحة شاسعة وسط روما ، وقد تم بناؤها في القرن السابع عشر الميلادي، وقام بتصميمها احد الفنانين الهولنديين ( اسمه فان زاتس) ، وتزدحم الحديقة بالسياح الذين يتوزعون امام معالمها الكثيرة ، ومن ابرزها البحيرة الصناعية ومتحف ومعرض بورغيزي الذي اقيم في مكان القصر الذي كانت تقيم فيه الاسرة الحاكمة آنذاك (1613) حيث يضم لوحات فنية وتماثيل من اعمال كبار الفنانيين مثل كانوفا وبرتيني ورافائيللو و غيرهم ، وفي احد اطراف الحديقة توجد ساحة ( الشعب) او ساحة )فلامينيو) التي تطل على المتحف الوطني للفنون الحديثة و يأخذك اليها شارع طويل محاط بالتماثيل التي لا يخلو اي مكان في روما منها.
يعود تاريخ بناء روما الى عام 753 قبل الميلاد ،ويصل عدد سكانها الان الى نحو 3 ملايين ،وقد تعرضت المدينة لموجات من النهوض بدأت بغزو قرطاجنة (201 ق.م.) حيث اطلق الرومان آنذاك على البحر المتوسط اسم : هذا بحرنا ، ثم بدأت بالتراجع منذ وفاة الامبراطور ( اوريليوس 189 م ) حتى انهارت عام 476 على اثر غزو البرابرة ، لكنها استعادت نهضتها الدينية و الثقافية من نهاية القرن الرابع عشر و حتى منتصف القرن السادس عشر ، حيث تزامن ذلك مع ظهور اسماء دينيه ( شارلمان) او ثقافية ( مايكل انجلو و ماكيافيلي ) وصولا الى انتقال ايطاليا من الفاشية ( حكم موسيليني) الى الجمهورية و الديموقراطية وتحولاتها التي توجت في عام 1968 عصر الاصلاحات الحقيقية على الصعيدين السياسي و الاجتماعي.
حين تتجول في شوارع روما يأخذك كل ماتراه فيها الى التاريخ ، وهو تاريخ ممتد و طويل ومزدحم بالصور و الاحداث ، لكنه يبدو حاضرا بامتياز ، سواء في التماثيل و الصور الفنية ، او في القصص و الحكايات التي تسمعها ، وقد حافظ أهل روما على هذه ( الذاكرة) وابدعوا في صيانتها ، لدرجة ان روما تحولت الى ( متحف) كبير ، تزينه الطبيعة الخضراء التي اكتسبت من نهر ( التيفيري) و غيره من الانهار الصغيرة و النوافير و البرك الصناعية رونقا خاصا ، و لايمكن لزائر روما ان يتجاوز المرور عن بعض معالمها الشهيرة ، ابتداء من نافورة ( تريفي) التي كانت ملتقى لقنوات المياه المعلقة التي تمد اهلها بالمياه( تم بناؤها عام 19 ق.م) ، ثم جرى تطويرها بأمر البابا نيكولو الخامس اما ما يحيط بها من تماثيل مرمرية فقد جرى نحتها في القرن الثامن عشر بيد الفنان نيكولوسالفي،وهي الان ملتقى السائحين الذين يتسابقون لرمي النقود فيها تبعا للأسطورة القديمة التي تقول بأن كل من يلقي بداخلها قطعة نقود لابدّ وان يعود لزيارة روما مرة اخرى
لا يمكن بالطبع ان تغادر روما دون ان تزور ساحة فينيسيا وترى نصب النصر التذكاري التي استغرق بناؤه 26 عاما بمناسبة اتحاد ايطاليا (1885 – 1911) وكذلك قبر الجندي المجهول و التمثال الكبير للملك ( فيتوريو الثاني ) الذي صنع من البرونز المطلي بالذهب ، وكذلك الكولوسيو الذي كان اهل روما يتابعون على مدارجه حفلات المصارعة بين المقاتلين و الوحوش، حيث تتسع مدارجه لنحو 70 الف متفرج .
تضم روم نحو 70 % من الارث الفني في العالم ، لكن تبقى (الفاتيكان) من اهم معالمها ، وقصة الفاتيكان طويلة ، كما ان ( عالمها الداخلي) يختصر تاريخ روما عبر عصورها المحتلفة ، و الفاتيكان دولة مستقلة و هي اصغر واغنى دولة صغيرة في العالم ، تبلغ مساحتها 44. كلم مربع ويبلغ عدد سكانها نحو (1000) شخص ، ويعود تاريخ استقلالها لعام 1929 م ، حيث وقع البابا آنذاك معاهدة( لاتزين) مع موسيليني ، وهي معاهدات ثلاثة تم بموجبها منح الكاثوليكية الرومانية منزلة خاصة في ايطاليا ، وفي محيط الدولة الصغيرة تقع كنيسة القديس بطرس و الكنيسة السيستانية ، و يرى الزائر داخلهما لوحات اعظم الفنانيين الايطاليين امثال مايكل انجلو وبيرنيني ، اما المتحف الذي يضم مئات اللوحات الفنية و المخطوطات و التماثيل التي رسمها هؤلاء الفنانون و غيرهم ( ديفنشي وتبتيان مثلا) فهو يشكل ذاكرة تاريخية لما شهدته روما من صراعات و حروب و انجازات وهو يعكس – بالصورة و اعمال النحت- الحالة الدينية و السياسية و الثقافية آنذاك .
مادمنا في التاريخ ، لنتذكر فقط بأن روما احتلت منطقتنا ( سوريا و الاردن وفلسطين و لبنان) عام 63 م ،وتشكل آنذاك اتحاد المدن العشر (الديكابولس) وضم فيلادلفيا ( عمان) وجراسيا ( جرش) وجدارا (ام قيس) وارابيلا( اربد ) و غيرها ، وتم بناء طريق تراجان الذي يمتد من العقبة الى بصرى الشام ، وقد فرض الرومان على سكان المنطقة اللغة اللاتينية كبديل للغتهم اليونانية ، والدين المسيحي ايضا.
قبل ان اختم هذه الجولة التاريخية اشير فقط الى ان روما تضم ( مسجدا ) واحدا وهو اكبر مسجد في اوروبا و يشكل احد معالم المدينة و يضم مركزا و مصلى و مكتبة ويحظى بعلاقات جيدة مع الحكومة و المؤسسات الايطالية كما ان في روما مصليات كثيرة يرتادها ابناء الجالية الاسلامية التي يبلغ عددها في ايطاليا نحو 2 مليون شخص.
غدا نكمل ان شاء الله..