الفتاوى المفخخة!
النوايا الطيبة لا تشفع للمرء حماقاته، ولا «زلاته» الكبرى، ما زلت بين الحين والآخر أتذكر مقولة رائعة للأستاذ العزيز فهمي هويدي، يضع فيها يده على جرح غائر في جسد هذه الأمة، وتختصر جملة من المطولات والمطولات، يقول: «حين أطالع أمثال تلك الفتاوى المفخخة التي يطلقها أولئك النفر من الدعاة الجدد، وألحظ ما فيها من جرأة وتغليط، تنتابني الدهشة ويتملكني العجب، الأمر الذي يدفعني إلى القول: إذا كان أبناء الإسلام يقدمونه بهذه الصورة، فتشويهه لا يحتاج لأعداء»!!
وليت الأمر يقف عند حد «الفتاوى المفخخة» كما يسميها الأستاذ هويدي، فالقصة غدت أكثر خطورة وشراسة، حين يعتقد نفر من الناس، أن من يمتلك علما كتب عليه «لا إله إلا الله» وقطعة أرض باتساع قبر، أو اكبر قليلا، بوسعه أن يعلن عن إقامة «إمارة إسلامية» ويبدأ بقطع رؤوس البشر، ورجمهم، وبتر أيديهم، ومنع الموسيقى، معتقدا أنه «يقيم حدود الله» غير منتبه لما يقترفه من تقزيم للمفاهيم الإسلامية، ومسخ لدور «ولي الأمر» الذي يعتقد أن واجبه قطع يد السارق قبل أن يوفر له رغيف الخبز، ويرجم الزاني قبل أن يهيء له الفرصة للزواج والعفة!
أكثر من ذلك، رأينا أقواما يتنادون لـ «الجهاد» كلما فتح «الآخرون» جبهة هنا أو هناك، وهؤلاء الآخرون تحديدا هم من يفتحون الحدود للمجاهدين المفترضين، وييسرون لهم سبل الحصول على السلاح، وربما يملونهم به عبر وسطاء وأطراف أخرى، بعلمهم أم بغيره، لا يهم، و «الإخوة المجاهدون» مأخوذون ومتلهفون للقاء السبعين من الحور العين، وهم لا يعلمون أنهم ينفذون أجندات اللاعب الكبير، الذي يرقبهم ويمولهم ويسيّرهم كيفما يشاء من وراء حجاب، فتراهم يعتقدون أنهم يحسنون صنعا، ويتقربون إلى الله جلت قدرته، وهم لا يعلمون أنهم مجرد أداة طيعة في يد ذلك المعلم يعملون لديه، ويأتمرون بأمره من حيث لا يشعرون، وحينها ينطبق عليهم تلك المقولة الجارحة: أسوأ أنواع الخيانات تقع حينما تنفذ مخططات العدو وأنت تعتقد أنك تتقرب إلى الله، ويصدق هذا على جملة من الحراكات «الثورية» و «الجهادوية» التي حرقت مستقبل هذه الأمة أو كادت، تحت عناوين ملتبسة من مثل: إقامة شرع الله في الأرض، أو تحرير الأرض من الطواغيت، او سوى ذلك من شعارات خيرة طيبة، ظاهرها طاعة وباطنها بضاعة فاسدة يراد لها ان تكون وقودا في تنفيذ ما في رأس «المعلم» الكبير، الذي يسخر لتحقيق أهدافه وسائل إعلام ودولا وكتابا وحارقي بخور!
المؤمن كيّس فطِن، وليس كيس قطن، كما كان يقول مشايخنا الطيبون، الذين وقع بعضهم ضحية لمخططات «المعلم» نفسه، فأسسوا تنظيمات وأقاموا التشكيلات «الجهادية» ولم تكن في حقيقتها إلا أداة لتحقيق مآرب السي آي إيه وربما الموساد، وبقية أجهزة الأمن الغربية!
إن للجهاد فقهه وأصوله، واشتراطاته كي يكون عبادة خالصة لله، متقبله لديه سبحانه وتعالى، وهي وعبادة شأنه شأن العبادات الأخرى، لا بد أن تتوافر فيه محددات معينة أفاض الفقهاء الثقات من علمائنا الأجلاء في شرحها، استنادا للنصوص الفقهية الموثوقة، أترى لو أن احدا صلى كما يحب وخالف في صلاته شروط الصلاة الصحيحة هل تقبل منه؟ أم تتحول إلى مجرد رياضة بدنية؟ وكذا هو الجهاد لا يجوز لكل من هب ودب أن يفتي فيه «فتاوى مفخخة» فيُأمّر نفسه على ثلة من المسلحين ثم يقولون عن أنفسهم انهم مجاهدون، بل يجبرون مسلحين آخرين على مبايعتهم بوصفهم من يستحقون هذه البيعة عنوة وقهرا وجبرا، وهم في الحقيقة يعيثون فسادا في الأرض، ويحلون الدماء التي حرمها الله، ويلطخون صورة الإسلام بالطين!
يقول رب العزة:( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) «المائدة».