لماذا نتصالح؟
سنضع جانباً (بصورة مؤقتة) قرار القضاء المصري بحظر حركة حماس، مسبباته وتداعياته، وسنتوقف قليلاً عن تعقيب للدكتور محمود الزهار على القرار المذكور، قال فيه فيما يشبه “الإشفاق” على المصريين من “الغفلة” و”عدم التوازن” التي يعانون منها، إن هذا القرار يُفقد مصر دورها في كثير من القضايا الإقليمية، ويفقدها بالأخص دورها كراعٍ للمصالحة الفلسطينية.
هذا المقطع من تعليق الزهار على القرار المصري، يَشفُّ عن “ذهنية” غريبة عند بعض الفلسطينيين في النظر إلى موضوع الانقسام والمصالحة … فأن يُقبَل بك “راعياً” أو”وسيطاً”، فمعنى ذلك أنك صاحب دور “إقليمي” حاضرٍ ومتميز، بل أن ترشيحك، دولةً أو منظمة أو شخص، للقيام بهذا الدور، يُعد مكافأة لك، وتعبيراً عن الرضى وحسن السيرة والسلوك، مع أن الأصل، أن نذهب إلى آخر الكرة الأرضية، متسولين ومتوسلين، على حد تعبير وزير الخارجية القطري السابق، بحثاً عن أية مساعدة لإخراجنا من هذا المستنقع القذر والخطير الذي وقعنا فيه منذ سنوات سبع عجاف، من دون أن يلوح في الأفق، أنهن سيُتبعن بسبعٍ سمان.
هي أذن، ورقة قوة، لا حالة ضعف، يستخدمها هذا الفريق أو ذاك، لمنح هذه الجهة أو تلك، دوراً إقليمياً وازناً، نحجبها في حالة الرضى عن المواقف والارتياح للسياسات والمعاملات، ونحجبها إن نحن قررنا معاقبة من نعتقد أنه يلحق الضرر بنا أو “يبيّت” لنا أمراً جللاً، لـ “شيطنتنا” أو العدوان علينا، كما جاء على لسان الزهار في وصف القرار القضائي المصري.
إن كان الحال كذلك، فلماذا نتصالح إذن، ولماذا نتخلى عن “ورقة ضغط وقوة” نستخدمها ضد هذا ولصالح ذاك، وفقاً لتعاقب الأزمان وتتالي صنوف الدهر … دعونا نبقى منقسمين إلى أبد الآبدين، علّنا بذلك نحفظ ورقةً تساعدنا في إدارة علاقاتنا الإقليمية والدولية، فما الذي سنضغط به مستقلاً على مصر أو غيرها، إن نحن تصالحنا وفرطنا بهذه الورقة؟ … وكيف سيكون موقفنا أمام هجمة الإعلام والسياسة والعسكر والرأي العام المصري، إن نحن اخترنا طوعاً تجريد أنفسنا من هذا “الكرت/ الصولد”؟
في التصريح ذاته، يكشف الزهار عن “تعاون” بين السلطة وإسرائيل لخنق قطاع غزة، لا ندري إن كان مباشراً أم غير مباشر، لخنق القطاع المحاصر، ولم يستبعد قيام الجيش المصري بشن عدوان على قطاع غزة، فالمهزلة وفقاً لتعبيره، بلغت ذروتها بهذا القرار غير المسبوق، منذ زمن الفراعنة (؟!) … ولست أدري والحالة كهذه، كيف يخطط الدكتور الزهار للخروج من عنق زجاجة الحصار، وهو الذي يطلق نيران تصريحاته في كل اتجاه، مع أن مناخات إيجابية، كانت أطلت برأسها من ثنايا التطورات الأخيرة في ملف المصالحة بين فتح وحماس، ووردت بشأنها الكثير من التكهنات والتوقعات، لكأن المطلوب استعداء الجميع دفعة واحدة، مع أن المخرج الوحيد المتبقي لحماس للخروج من عزلة الحصار وأطواقه، في القطاع وخارجه، بات محصوراً بالمصالحة واستعادة الوحدة، لكن يبدو أن هناك من “يسترطب” إطلاق النار عشوائياً وفي كل الاتجاهات، حتى وإن كانت النتيجة، زيادة الطين بلّة.
والحقيقة أن الفلسطينيين ما عادوا بحاجة لوسيط أو راعٍ لإتمام المصالحة، فقنوات الاتصال بين فتح وحماس، رام الله وغزة والدوحة، مفتوحة وبالاتجاهين … الفلسطينيون بحاجة لـ “عودة الوعي والضمير” لاتخاذ قرار تاريخي بإنهاء سنوات الانقسام العجاف، وتجنب التعامل مع الانقسام كـ “ورقة” يمكن استخدامها في سوق السياسة والعلاقات، والأهم الحيلولة دون تحوّلها إلى “بيزنيس” على المستويين الرسمي والأهلي … ولقد شهدنا مسؤولين فلسطينيين كبارا، يعرضون في أثناء تطوافهم على الدول على حكوماتها، أمر القيام بدور “الوسيط” و”الراعي” باعتبارها مؤهلة أكثر من غيرها،للقيام بهذا الدور، والهدف دائماً استدراج الدعم والمناصرة، سياسياً ودبلوماسياً، وأحياناً مالياً.
ورأينا “بيزنيس” كبيرا يتعاظم حجمه ووزنه. نما على جذع الانقسام اليابسة، مؤسسات وشخصيات، ستواجه خطر “البطالة”، إن قُيّض للفلسطينيين مغادرة مربع الانقسام والعودة إلى وحدة الأرض والمجتمع والشعب والمؤسسات، وبصورة تذكرنا بعبارة لطالما جرى استخدامها في السياق الفلسطيني: النضال لتحرير فلسطين أكثر جدوى وامتاعاً من تحريرها فعلاً … و”النضال” من أجل استعادة المصالحة، أكثر جدوى ومردوداً من استعادتها فعلاً على ما يبدو.
أما بالعودة إلى القرار المصري، فنحن نراه تطوراً خطيراً في العلاقات المصرية – الفلسطينية، خطوة في الاتجاه الخطأ … ولقد حملنا على من يسعى لـ “شيطنة” حماس والفلسطينيين وأهل غزة، من الساسة والإعلاميين المصريين … وسخرنا من “حكاية التخابر” التي يُتهم بها الرئيس المصري المعزول الدكتور محمد مرسي … بيد أننا في الوقت ذاته، أخذنا على حماس، أنها لم تفعل شيئاً لقطع الطريق على هذا المنحى، بل فعلت كل ما من شأنه توتير العلاقات مع القاهرة، وبطريقة تنم عن استخفاف شديد، بحجم مصر ودورها، منذ الفراعنة وحتى السيسي.
أذكر ذات مجلس وطني في الجزائر، وكان الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي يومها وزيراً لخارجية البلد الشقيق، أنه جاء إلى مقر إقامة الدكتور جورج حبش، يدعوه لـ “تدوير الزوايا” الحادة في موقف الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من شعارها الشهير “إغلاق البوابتين، المصرية والأردنية في وجه الحلول الاستسلامية”، في إشارة إلى مطلب الجبهة آنذاك بقطع العلاقات الفلسطينية مع القاهرة وإلغاء اتفاق شباط 1985 مع الأردن … يومها بدا أحد أعضاء المكتب السياسي للجبهة منفعلاً ويقول بصوت مرتفع: “أنا لا أخشى مصر/ كامب ديفيد، ولا أحسب لها أي حساب”، رد الوزير الجزائري بهدوئه وكياسته المعروفين: نحن الدولة المستقلة، بلد النفط والغاز والثلاثين مليون مواطن والمليون ونصف المليون شهيد، نخشى مصر ونحسب لها ألف حساب، فكيف الحال بالنسبة لفصيل أو منظمة أو شعب صغير تحت الاحتلال وعلى مرمى حجر من القاهرة.
يبدو أن التاريخ يعيد نفسه، وبصورة “مهزلة” على حد تعبير الزهار … يبدو أن أحداً في الحركة الوطنية والإسلامية الفلسطينية، لا يريد أن يتعلم من تجارب أشقائه وإخوانه ممن سبقوه على هذا الطريق، وإلا كيف نفسر كل هذه التبعات الثقيلة، للحدثين المصري والسوري على الفلسطينيين، شعباً وقضية، وبالأخص على حركة حماس.