لا يريدون لمجتمعنا ان يتعافى..!!
أخشى ما أخشاه هو ان يفاجئنا الوقت باستحقاقات جديدة لا نستطيع لها دفعا، وعندها سنشعر بالندم لاننا ضيعنا فرصة التوافق على مشروع اصلاحي وطني يضعنا على سكة السلامة، ورغم ان الوقت ما زال متاحا امامنا لاستدراك اخطائنا الا انني اعتقد ان كافة الفاعلين في حياتنا السياسية يدركون تماما بان هذه المرحلة بما تحفل به من ازمات وانسدادات هي الافضل والانسب (للم) الشمل الوطني واجراء ما يلزم من مصارحات ومحاسبات ومصالحات في كافة الميادين والمجالات.
لو سألتني وسط هذه المناخات التي اثقلتها صراعات النخب بالحناجر والخناجر معا : ما هي القيمة الغائبة التي يحتاجها مجتمعنا في هذه المرحلة؟ لقلت على الفور: الحوار ، والحوار المقصود لا علاقة له – قطعا – بهذه السجالات التي تزاحمت مؤخرا في صالوناتنا ومنابرنا واخذت اشكالا مختلفة اقرب ما تكون الى الصراع ، ولا – ايضا – بحالات “التموضع” والتكتل وما رافقهما من تراشق هنا او التباسات واشتباكات هناك ، وانما المقصود منه الخروج من هذه الدوائر المحتدمة واحياء لغة جديدة تقوم على التفاهم والتواصل والوعي على شروط المرحلة ومتطلباتها وانضاج حالة من التوافق والانسجام التي تصنعها المواقف العاقلة ، المنفتحة على الذات والمتصالحة مع الآخر في آن.
قلت قبل اعوام في هذه الزاوية تحديدا بان الحوار ضرورة وفريضة ، وغيابه او تغييبه “كارثة” ومحاولات الالتفاف عليه او طلاء جدرانه بدل العمل على بنائها نوع من “العبث” ، وما لم نتوصل بالحوار الى تفاهمات ومصالحات فاننا – بغيره – ومهما كانت البدائل سندخل مجددا في حالة من “الفراغ” وافتقاد الوزن ، وسنعيد – مرة اخرى – انتاج ادوات جديدة تذكي “الصراع” القاتل ، والدوران الفارغ وتجرح “المشتركات” والجوامع او تضيّق عليها الخناق فيما تتوسع دوائر الفروق والصدامات وتشتد وطأتها ولا تسأل حينئذ عن النتائج.
من حق الناس في مجتمعنا ان تسأل : لماذا اصبح الحوار مقطوعا بين النخب وبين المسؤولين والناس ؟ ولماذا يتحول – حين نستدعيه – الى حوار طرشان؟ هل لدينا ازمات عصية على الحل بالحوار؟ هل اصبحت الابواب مسدودة امام اي تفاهم؟ هل تعطلت “لواقط” المجتمع عن استقبال اي رأي آخر؟ لا ادري ، ولكنني اعتقد بأن كل ما نعانيه ونشكو منه هو نتيجة لغياب “منطق” الحوار،وشيوع ثقافة “المناكدة” والمناكفة ، والتفنن في انتاج مشروعات متجددة “للأزمة” بحيث يشتبك الجميع مع الجميع ، وينشغل الكل بالكل” وندور في حلقة مغلقة وفارغة ، ونتصور بأن ثمة رابحين وخاسرين فيما الحقيقة ان مجتمعنا كله هو الخاسر ، واننا – جميعا – ضحايا لصراعات غير مفهومة ولا منتجة ولا ضرورية ، واسرى لحالة يغيب فيها الروح والوعي ، هذان اللذان لا ينبضان الا بوجود الحوار الذي هو اساس الحياة.
لا بد ان نعترف هنا بان مشكلتنا ليست بين الناس فيما بينهم وانما مشكلتنا مع بعض النخب التي اختطفت اصوات الناس وجيرتها لمصالحها الخاصة ،وهنا فان الجناية التي ارتكبها هؤلاء تركت اثارها البالغة على مجتمعنا لكن من سوء حظنا ان التحولات التي طرأت على المجتمع الاردني وان كانت انهت بالفعل صلاحية بعض هؤلاء النخب الذين كانوا وما زالوا جزءا من المشكلة الا انها للاسف أفرزت طبقة جديدة من الموظفين الكبار الذين نجحوا في اختراق أسيجة العمل العام، او البرلمان، سواء من مهادات البيزنس او الاطراف البعيدة ، او حتى من العصاميين الفقراء، لكن هؤلاء لم يتمكنوا بعد -في ظل اصرار النخب التقليدية على الامساك بمفاتيح التوجيه- من تقديم انفسهم او تأكيد حضورهم الشخصي والفكري، لدرجة ان بعضهم استسهل الوصول من خلال الذوبان في الاصطفافات القائمة، أو وجد في التحالف مع مراكز القوى بديلاً لخوض منازلات سياسية مكلفة.. او غير مضمونة النتائج،فيما بقيت الوجوة ذاتها تتحكم وتسيطر وتنتقل من شيطنة خصومها التقليديين الى مكاسرة حلفائها القدامى ..لا لشيء الا دفاعا عن مصالحها الشخصية.
وراء انقطاع الحوار وتعميم حالة الاستعصاء تقف بعض النخب التي لا تؤمن بالاصلاح ولا تريد ان تفقد امتيازاتها ولا يسعدها ابدا ان يتعافى مجتمعنا ، ولهؤلاء يجب ان نقول دائما وباصرار اننا في مرات عديدة جربنا “صيدلية” الحوار ، ووجدنا فيها ما نحتاجه من “ادوية” لأمراضنا ومشكلاتنا ، وفي مرات عديدة دفعنا ثمن افتقاده وتغييبه وانقطاعه ، وكان – بوسعنا – بعد هذه التجارب ان نتعلم من دروس النجاح والفشل ، وان نتوجه الى “الاستثمار” في الحوار كقيمة مثمرة ، لكي نحسم كل الاسئلة التي تتردد في انحاء مجتمعنا ، وكل القضايا التي تشغلنا بأجوبة مقنعة ومصارحات وتفاهمات تفضي الى مصالحات حقيقية تجنبنا غوائل الانسدادات والانفجارات التي ينتجها “الضغط” او الشد المتبادل داخل الجسد الواحد.