مطحنة الشرايط!
وحكاية الملابس والقماش في بيت الفتى طويلة جدا.. وفصولها متعددة.. فوالدة الفتى كانت تمتاز عن غيرها بإتقانها للخياطة.. وكانت «ماكينة الخياطة» على الدوام جزءا رئيسا من مقتنيات البيت طيلة سنوات عمر الفتى في المخيم.. وهذه الميزة بقدر ما كانت نعمة على رب البيت، كانت نقمة على الفتى، ذلك إن أي قطعة قماش كانت تدخل البيت.. لا تخرج منه أبدا.. إلا وقد تحولت إلى خيوط أو مزق أو لا شيء على الإطلاق!
لقد كان ترتيب الفتى بين الأشقاء الخامس، وكان يسبقه في السن ثلاثة من الذكور وأنثى وتتلوه أنثيان وذكران.
وقد أعطاه هذا الترتيب مكانة غريبة فرضت عليه أن تكون غالبية ملابسه مما يبلى أو يضيق على أشقائه الذكور ممن يكبرونه في السن، ولم يكن هذا ممكنا لو لم تكن والدته تمتلك موهبة «تديير» (أو تدوير!) أي بنطلون أو قميص يرفضه الإخوة الكبار لسبب من الأسباب، و»التديير» هنا هو إعادة إنتاج البنطلون بالتقصير أو التضييق حتى يتناسب مع حجم الفتى وهذا يعني ان البنطلون كان يلبسه الأخ الكبير حتى إذا مله أو صغر أو أصابه شق أو اهتراء تحول إلى من يليه بعد إجراء الإصلاح اللازم.. وعادة ما كان الأخوان اللذان يكبرانه يرفضان لبس ما تم «تدويره» فيستقر أخيرا في حوزة الفتى كجزء من ملابسه.. وقد بلغ الأمر حدا أن كل أو جُل ملابس الفتى كانت على هذه الشاكلة.. ومع تعاقب هذه العملية استقر في ذهن الفتى ان مقياس الأناقة منوط يخلو البنطلون من الرقع وآثار ماكينة خياطة الوالدة.. بمعنى أن البنطلون الأنيق هو البنطلون الذي لم يتعرض لعملية جراحة بغض النظر عن طريقة قصه أو لونه أو موديله.
وعادة ما كان الفتى يرتدي هذه القطعة من الملابس حتى تمله فتحال إلى استعمالات أخرى لا تقل أهمية عن فترة خدمتها في معيته .. وأهم تلك الاستعمالات على الإطلاق شحنها إلى «مطحنة الشرايط»، وهي آلة ضخمة كانت تزور المخيم بشكل منتظم في مواسم معينة تقوم بفرم الملابس المستعملة وتحويلها إلى ما يشبه القطن واستعمالها لصناعة المخدات والفرشات.
وما لا يتحول إلى «مطحنة الشرايط» من نثار القماش، يجد طريقه إلى ماكينة الخياطة إذْ يُصار إلى خياطته مع بعضه بعضا ليصبح وجها لمخدة أو برداية أو «جنبية» وهي شيء يشبه الفرشة الصغيرة كانت تستعمل بكثافة للجلوس.
أما ما لا يصلح من القماش لكل ما تقدم فيتحول إلى «ممسحة» أو فوطة للتنظيف أو يستعمل لإغلاق الشقوق في جدران المنزل لمنع الفئران والصراصير والهوام من مهاجمة سكانه.
وهكذا يتبين ان أي قطعة قماش تدخل البيت تغدو عضوا دائما في الأسرة لا تغادره على الإطلاق.
(مقطع من سيرة غير ذاتية بعنوان «العشب الأسود»)
ترى ما الذي استدعى هذا الطقس البائس من طقوس المخيم في هذا الوقت بالذات؟
لا أدري على وجه التحديد، لكنني أحببت أن يعرفه أبناء الجيل الثالث أو الرابع من اللاجئين، في موسم الحديث بكثافة عن خطط التسوية و «بيع» كل شيء بلا ثمن!