أردوغان وتركيا … قصة رجل وتجربة
يرغب كثيرون في هذه البقعة من العالم، أن يستفيقوا ذات صباح، فلا يرون للسيد رجب طيب أردوغان وجوداً في الملعب السياسي التركي والإقليمي، حتى أن أطرافاً متورطة بعداوات تاريخية مع بعضها البعض، باتت تشترك بهذه “الرغبة”، كل من موقعه ولأسبابه المختلفة.
لكن هذه الأطراف جميعها، تدرك تمام الإدراك، أن ما يعتمل في دواخلها، ليس سوى ضرباً من “التفكير الرغائبي”، فكافة الدراسات الاستطلاعية تشير إلى أن حزب العدالة والتنمية، باقٍ في السلطة لولاية إضافية واحدة على الأقل، وربما يصل به المطاف إلى العام 2023، حين ستحتفل تركيا بالعيد المئوي للجمهورية، وذلك بالاستناد إلى عاملين اثنين: الأول، الإنجاز الاقتصادي للحزب وحكومته وزعيمه، وهو إنجاز لا ينكره سوى صاحب غرض … والثاني، استناد الحزب إلى بنية اجتماعية محافظة وتقليدية، تقدرها معظم الدراسات والتقارير ذات الصلة، بحوالي 40 بالمائة من إجمالي الرأي العام التركي.
سلسلة من الأزمات والفضائح، انفجرت في العامين الفائتين في وجه السيد أردوغان، كل واحدة منها كانت تكفي للإطاحة بأية حكومة تركية، بيد أن الرجل المستند لإرث عقد ونصف من العقد من الإنجاز، ولقاعدة اجتماعية متماسكة بفعل طابعها المحافظ والتقليدي، استطاع أن يصمد في وجهها جميعاً، وأن يظل الرقم الصعب في المعادلة التركية الداخلية.
المؤكد وفقاً لمختلف التقديرات، أن العدالة والتنمية بقيادة أردوغان، سيكسب المعارك الانتخابية القادمة، البلدية والبرلمانية، بيد أن المرجح أن يفقد الحزب أغلبيته المطلقة، التي مكنته من حكم البلاد منفرداً، وثمة من يعتقد بأن الحزب سيأتي بحوالي 40 بالمائة من أصوات الناخبين، بتراجع مقداره عشر نقاط عن آخر انتخابات خاضها وهو في ذروة صعوده.
سبب هذه التراجع الملموس في شعبية الحزب، وبالأخص زعيمه، إنما إلى سلسلة المعارك والجبهات المفتوحة التي خاضها، بعد أن اعتلى هرم الدولة التركية من دون منازع، وظن أنه نجح وإلى الأبد، في تفكيك جبهة خصومه، تحديداً “المؤسسة العلمانية” المتحكمة بتاريخ تركيا المعاصر: الجيش، الرئاسة، القضاء والإعلام.
لا شك أن أردوغان نجح في إقعاد الجيش التركي في “بركساته”، وشن أوسع حملات “تطهير” للقضاء، استدعت غضب الاتحاد الأوروبي وقلقه، وشنّ أوسع حملات المطاردة لخصومه في جهاز الشرطة والعدل … ولاحق الصحافة بصورة تذكر بما يفعله قادة “الديكتاتوريات” العربية التي طالما سخر منها أردوغان والطبقة السياسية والثقافية التركية بصورة استعلائية … فتركيا اليوم تحتل المرتبة 154 من أصل 180 دولة في سلم حريات الصحافة هبوطاً من المرتبة 98 عام 2005، وبوجود أكثر من ستين صحفيا في سجونها، باتت توصف بأكبر سجن للصحفيين في العالم، والحرب التي يخوضها السيد أردوغان ضد “الانترنت”، هي امتداد للعنف المفرط الذي تعرض له الصحفيون في ساحات “تقسيم” و”جيزي”، وكل هذا يصب في غير مصلحة تركيا وتجربتها “الخاصة” وصورة زعيمها التي حاول أن ينسجها عن نفسه، بوصفه المدافع الأول عن حقوق شعوب المنطقة في الحرية والكرامة، وتتعاكس مع رغبته الملحة في تأمين مقعد دائم لبلاده في “النادي الأوروبي”.
فشلت حكومة العدالة والتنمية في معالجة مختلف ملفات السياسة الخارجية لتركيا، ومع اندلاع ثورات الربيع العربي، بدا أن هذه السياسة تُدار بـ “الأوهام” و”الأطماع الجسام”، إلى أن جاءت الصدمة من سوريا، لتعقبها سلسلة من الصدمات، التي ترددت أصداؤها في ليبيا والعراق وإيران ولبنان، والأهم في مصر بعد الثلاثين من يونيو، وطاولت بهذا القدر أو ذاك، دولاً خليجية وازنة .
وترتب على هذا الفشل انعكاسات داخلية، فالعدالة والتنمية الذي بشّر بإغلاق ملف “المسألة الكردية” في الداخل، فتح على نفسه ملف “المسألة الكردية” في الخارج، من دون أي تقدم يذكر في المفاوضات مع “سجين إيمرالي” … وبدل أن تكون تركيا قد عززت وحدتها الداخلية بحل هذه المشكلة بصورة حضارية، انتهت السياسات التركية ذات الطبيعة “المذهبية” إقليمياً، إلى نشوء “المسألة العلوية” وتفاقمها داخلياً، دع عنك الصراع التاريخي بين إسلاميين وعلمانيين، والذي لم يضع أوزاره بعد، برغم مرور ما يقرب القرن على اندلاعه.
أما عن الإرهاب، فحدث ولا حرج … تركيا التي نفت في البدء وجود الإرهاب في سوريا، عملت على تسهيل مقدمه إليها، ظناً منها أن “داعش” يمكن أن تخدم هدفاً مزدوجاً لأنقرة: ضرب النظام في دمشق، وأكراد سوريا في شمال شرق سوريا … بيد أن المفارقة أن أول غارة تركية داخل الأراضي السورية، استهدفت “داعش” وليس النظام السوري الذي طالما توعده أردوغان بالويل والثبور وعظائم الأمور … وها هو سحر اللعب بهذه الورقة الخطرة، او “السلاح المزدوج”، يرتد على الساحر، وتركيا اليوم باتت عضواً أصيلاً في نادي الدول الأكثر قلقاً من الإرهاب.
ولم يكن ينقص السيد أردوغان وحزبه، سوى فضيحة الفساد وحرب “داحس والغبراء” مع فتح الله غولن، حتى تحيط بهما أطواق العزلة من الجهات الأربع … فهذه الفضيحة، بصرف النظر عن مدياتها ومستوى تورط الحلقة القريبة من أردوغان بها، عائلياً وحزبياً، قضت أو تكاد، على الأسطورة التي تضخمت تحت شعار “محاربة الفساد”، والأرجح أنها ستظل تطارد الرجل وحزبه، أياً كانت الطريقة التي سيغلق فيها هذا الملف.
على أية حال، هي نهاية أسطورة، نهاية نموذج كان قابلاً للتصدير إلى المنطقة، بيد أنها ليست نهاية حزب أو تيار أو مدرسة في التفكير السياسي، فهذه لها جذورها الأعمق، التي تجعلها قابلة للاستمرار بأشكال وصيغ ومسميات مختلفة، تتراجع حيناً وتتقدم حيناً آخر، وفي ظني أنها بلغت ذروة صعودها، وبدأت رحلة التراجع والهبوط، التي لا نعرف أين ستنتهي وكيف وإلى متى.