ليسوا ممن موظفي ( ليلة القدر )!!
مشكلة الادارة العامة في بلادنا ترتبط بكفاءة الاشخاص الذين يتبؤون المواقع العليا فيها اكثر مما ترتبط بكفاءة التشريعات او قلة الامكانيات او حتى بالارادة السياسية التي تحولت – للأسف – لدى البعض الى(نافذة) للهروب من المسؤولية .
لدي انموذجان – على الاقل- يؤكدان هذه الفرضية،احدهما يتعلق بما حدث لامتحان التوجيهي في هذا العام، فبعد ان شهدنا على مدى سنوات (تراجعا) لهيبة الامتحان، وانحرافا في مساره، وكدنا نستسلم (للقدر) الذي انسقنا اليه بحجة ان الاجيال تغيرت، وان الوزارة عاجزة عن (ضبط) اجراءات الامتحان، وردع المتسببين في الفوضى، تفاجأنا بما قام به الوزير الحالي ، د. محمد الذنيبات ، من انجازات اعادت للامتحان جزءا كبيرا من اعتباره وهيبته ، وما فعله – بالطبع- ليس معجزة بقدر ما هو (كفاءة) ادارية عكست التزامه بالمسؤولية وحرصه على مواجهة المشكلة بحلول جادة ومضبوطة ، وبهمّة (مؤسسية) وبحكمة ايضا.
النموذج الآخر يتعلق بقضية ( اسطوانات) الغاز التي جرى استيرادها من الهند ، وكادت – بالطبع- ان تمرّ الى بيوتنا ، وربما تتحول الى (قنابل) قابلة للانفجار ، لولا ( كفاءة) واخلاص مدير المواصفات والمقاييس، الدكتور حيدر الزبن ، وما فعله – ايضا- ليس معجزة وإنما يعكس (الكفاءة) الادارية التي اشرنا اليها سلفا، بكل ماتتضمنه من شجاعة في اتخاذ القرار و الاصرار عليه وعدم ( الرضوخ) للضغوطات وأدوات الترهيب و الترغيب الاخرى .
تفاصيل النموذجين يعرفها القارئ الكريم ،لكن المهم- هنا- هو ان وجود (اشخاص ) اكفياء يتمتعون بالاستقامة و النزاهة و الرغبة في العمل و الاخلاص ( للشأن العام) يشكل ضمانة اساسية لصحة القرارات و الاجراءات ، وتطمئن الناس على سلامة الخدمة التي تقدمها لهم الدولة ، بما ينعكس ايجابيا على علاقة الثقة بين الدولة و المجتمع ، وبين الادارة العامة والجمهور .
في العقود الماضية كان الموظف العام في مؤسساتنا مثالا للنظافة و النزاهة و الاستقامة ، وكانت الخدمة التي تقدم للناس تعكس ( عافية ) مجتمعنا ، وهيبة القوانين و الدولة ايضا ، وباستثناء تجاوزات نادرة ولدتها بعض اعراض المحسوبية لم نكن نشهد في الاداء العام للادارة اية تجاوزات ، على العكس تماما فقد كان الوزير او المسؤول يجسد ( صورة) حقيقية للرجل المناسب في المكان المناسب ، وكان الجمهور على ثقة دائما بأن القرارات التي تتخذ تنسجم تماما مع مصلحته وطموحاته ايضا .
هذا كان قبل ان ينزل بعض المسؤولين ( بالبرشوت) على الوظيفة العامة ، وقبل ان نبتلى بظاهرة ( مسؤول ليلة القدر )، هذا الذي ذكرنا به الشيخ المعلم عبد الكريم الغرايبة (شافاه الله)حين اشار الى ما شهده جزء من تاريخنا حين وصل بعض ( الاشخاص) الذين حلموا في ليلة القدر بأنهم سيعتلون السلطة، وقد حصل ذلك رغم انهم لم يكونوا مؤهلين لذلك، ومن الاسف ان بلادنا شهدت مثل هذاالنموذج ، ووجدنا في مواقع كثيرة ومهمة اشخاصا لا علاقة لهم ( بالشأن العام)، ليس لأنهم يفتقدون – على الصعيد الشخصي- المواصفات اللازمة، وإنما لأن اداءهم الاداري متواضع ، كما ان قدراتهم الفنية لا تتناسب مع وظائفهم، هذا اذا أحسنا النية بما لديهم من قيم تصلح لممارسة الوظيفة العامة ، كأن يكونوا بعيدين عن (فقه الشطارة) وما يترتب عليه من (نهم) للجشع و النهب و الفساد و السرقة و غيرها من آفات الادارة و المسؤولية ايضا .
لنا ان نتصور ما الذي كان يمكن ان يحدث لو (تنازل) مدير المواصفات العامة عن قراره بمنع استيراد الاسطوانات بعد ان اثبتت الاختبارات عدم صلاحيتها، او استسلم للضغوطات التي واجهها ، التيجة-بالطبع- ستكون كارثية بامتياز ، وهنا تبدو اهمية وحساسية اختيار هؤلاء الموظفين ، في مثل هذا المواقع التي تمس حياة الناس، وضرورة تقديم ما يلزم من دعم لهم ، واجدني هنا – مدينا- باسم الكثيرين بتقديم الشكر لهذا الرجل الذي لا اعرفه ، ومدينا ايضا بالشكر لكل الذين ( انحازوا ) الى ضمائرهم، وقدموا خدمة الناس على كل مصلحة او هوى، وظلوا مخلصين لوظيفتهم ومسؤوليتهم حتى لو دفعوا الثمن باهظا ، فهؤلاء يمثلون ( وجه) بلدنا المشرق ، وضميره الحي ، وصورته التي يحاول البعض ان يغطيها بمزيد من اشاعات الفساد حتى اصبحنا للأسف لا نثق بأي مسؤول .
باختصار،لكي تستعيد ادارتنا (العامة) نموذجها النظيف لابد ان نفكر جديا ( بالاشخاص) الذين نضعهم في المواقع العامة، فالمكشلة ليست فيما لدينا من تشريعات او امكانيات او قابلية للفساد وانما المشكلة و الحل ايضا في ( الاشخاص)و الموظفين الذين نختارهم او نعينهم في المناصب العامة ، وهؤلاء لابدّ ان يخضعوا لمعايير و شروط حازمة عند الاختيار، على اسس الكفاءة لا الثقة فقط .