بناء «كتلة تاريخية» هو الحل ؟!
بعض الذين يتخوفون اليوم على الأردن من “إطار” كيري واستحقاقاته هم أنفسهم الذين “قبلوا” وصفة الإصلاح، وعطّلوا مشروعه، وهم الذين منعوا “الكتلة التاريخية” في بلدنا من التوافق على مشتركاتنا الوطنية للخروج من أزماتنا، وهم الذين انقلبوا على “الربيع العربي” بعد أن اكتشفوا بأنه وصل إلى الأنظمة التي يتشاركون معها في العزف على أوتار “الصمود” وأوهام الممانعة.
الآن هل يدرك هؤلاء الذين يجهرون بعدم ثقتهم في التصريحات الرسمية، ويهددون ويتوعدون “بالويل والثبور” كل من يفرط بمصالحنا، بأنهم جزء من “المشكلة” التي يتدافعون لتحميلها على غيرهم، وبأنهم “شركاء فيما انتهينا إليه من واقع تزدحم فيه هواجسنا، وهل يملكون ما يلزم من شجاعة للاعتراف بأنهم “أخطأوا” حين ضيعوا علينا فرصة “الإصلاح” وحين شككوا في مطالب أصحابه، وحين انحازوا للدفاع عن النظام السوري أو الشماتة بالإسلاميين عندما أُخرجوا من السلطة وقدموا قضاياهم وأولوياتهم الحزبية والسياسية على حساب قضايا الناس وأولوياتهم التي لو تحققت -كما يجب- لما وجدنا ما يبرر مثل هذه المخاوف، لأن “عافية” مجتمعنا، وقوة مؤسسات دولتنا، ستكون كفيلة بالحفاظ على مصالحنا، وتبديد هواجسنا، وتحصين مواقفنا، مهما كانت الضغوط والإغراءات.
أدرك -تماماً- أن الصراع على الماضي “والتلاوم” حوله، سيضيّع من بين أيدينا فرصة التفكير بالحاضر والاستعداد للمستقبل، ولهذا أقول -فقط- سامحهم الله هؤلاء الذين تصوروا بأن إقصاء خصومهم السياسيين وإشاعة مناخات الكراهية ضدهم هي “الممر” الوحيد لخدمة البلد، وبذلك “توحدوا” على طرد المخالفين واحتفوا بالانتصار عليهم، بدل أن يتوحدوا على مصلحة الناس ويحتفوا بالانتصار على أعدائه الذين يشكلون مصدر تهديده والخطر المحدق على وجوده.
لكي نتجاوز حلبة “الصراع” على الماضي لا بد أن نبدأ على الفور بالتوافق على “بناء” كتلة تاريخية تجمع الفاعلين في المجال الوطني بكافة أطيافهم وتياراتهم السياسية والاجتماعية على أهداف واضحة ومحددة، ومن أهم هذه الأهداف: الإصلاح السياسي الذي يخدم العملية الديمقراطية، وتعريف المصالح الأردنية، وحماية الهوية الأردنية، وتوطيد قيم العدالة والمساواة والمواطنة، وبناء الكتلة التاريخية هنا، ليس بدعة، فقد سبق للإيطاليين أن استلهموا الفكرة من طروحات “جرامشي” ونجحوا في تطبيقها، كما فعل ذلك إخواننا في تونس، حين اعتمدوا “الترويكا” بعبور المرحلة الانتقالية نحو “شراكة” ديمقراطية، دمجت معظم القوى في العملية السياسية وجنبت تونس ما تعرضت لها الثورات العربية في بلدان كمصر وليبيا وسوريا وغيرها.
إذا اتفقنا على أن أخطر ما يواجه مجتمعنا هو “الانقسام” نتيجة العبث في مكوناته أو استقواءات بعض “النخب” فيه على “المجال العام”، أو نتيجة غياب التوافق على المفاهيم والقيم الكبرى التي تحدد هويته ومصالحه، وتوظيف “فزاعاتها” لاستمرار الهواجس أو تمرير بعض الأجندات، إذا اتفقنا على مثل هذا التشخيص فإن بناء الكتلة التاريخية الأردنية كرافعة أساسية لضبط إيقاع حركة المجتمع والدولة، هو الخطوة الأولى، والضرورية أيضاً، لمواجهة الأخطار التي تهدد بلدنا، لا فيما يتعلق بما يجري على صعيد التسوية وخطة كيري، وإنما أيضاً بما يجري في منطقتنا من تحولات، ابتداء من حدودنا الشمالية إلى موجة “العنف” التي تطرق أبوابنا، وصولاً إلى الخرائط الجديدة التي تفرضها الاستحقاقات الإقليمية والدولية، سواء من جهة تقاسم مناطق النفوذ والمصالح أو من جهة سقوط الأحادية الأمريكية وبروز تعددية القوى مع صعود روسيا والصين.
في هذا الإطار، لا يمكن بناء “الكتلة التاريخية” عملياً إلا من خلال وعاء “وطني” منسجم تماماً مع الأبعاد الحضارية لامتنا، سواء أكانت قومية أو دينية، لكن بعيداً عن “العصبيات” الأيدولوجية والقومية، وهذا “الوعاء” الوطني المنفتح لا بد أن يستوعب ويهضم كافة المصالح الموضوعية والمشتركات والفروقات التي تتحرك داخل المجتمع وتشكل -بصورة أو بأخرى- ملامح طموحاته أو مخاوفه.
نحتاج، في هذه اللحظة بالذات، إلى مغادرة حدود “التلاوم” والتصادم ومنطق الاصطفاف والتراشق، والتفكير (لا بل والعمل) جدياً من أجل بناء كتلة تاريخية، نتوحد في إطارها، كقوى سياسية واجتماعية، ومن مختلف الأطياف والمكونات، للتوافق على القيم الكبرى والمصالح العامة التي تضمن سلامة بلدنا وتحافظ على هويته، وتمنحه فرصة “تاريخية” للخروج من أزماته واستثمار إمكانياته وبناء مستقبله أيضاً.