ثلاثة خيارات وقرار واحد
سيحاول جون كيري أن يفرض على الفلسطينيين “قبولاً مشروطاً” بالاتفاق / الإطار … كأن يقبلوا به من حيث المبدأ، ويسجلوا تحفظات على بعض بنوده، كذلك سيفعل الإسرائيليون … وبهذا يكون الوزير الأميركي قد أوفى بوعده للأفرقاء، بأن المفاوضات ستنجز ما هو مطلوب منها، حتى قبل نهاية مهلة الأشهر التسعة المتفق عليها، وسيكون ذلك مدخلاً لاقتراح تمديد المفاوضات (يقال حتى نهاية العام)، حتى تتاح الفرصة للبناء على “الإنجاز التاريخي”، وتعميقه وتكريسه.
ثلاثة خيارات تنتظر القيادة الفلسطينية: القبول بمشروع كيري كما ورد من المصدر، القبول به مع بعض التحفظات، رفضه بالكامل باعتباره لا يشكل أرضية صالحة للحل أو للتفاوض اللاحق … كل خيار من هذه الخيارات يبدو مكلفاً للغاية، وسنحاول التعرف إلى أيهما أقل كلفة، أقله من وجهة نظر كاتب هذه السطور.
إن قبلت القيادة الفلسطينية بمشروع كيري، تكون قد سقطت بالكامل، ببساطة لأن المشروع يسقط حقوق شعب فلسطين ويستلب منه تنازلات “تاريخية” مجّانية، مقابل مشروع دويلة هزيلة، منتهية الصلاحية وناقصة السيادة والولايتين الجغرافية والديموغرافية … مثل هذا السيناريو، يبدو مستبعداً في ضوء ما نعرف عن مواقف رام الله.
وإن رفضت القيادة الفلسطينية المشروع برمته، بوصفه لا يشكل أساساً للحل أو التفاوض اللاحق، تكون قد تحملت وزر تعطيل مهمة كيري وإحباطها، وهذا سيعرضها لسيل من الضغوط والعقوبات، وقد ينتهي بالرئيس الفلسطيني إلى المصير الذي انتهى إليه سلفه، الزعيم ياسر عرفات، شهيداً بالسم أو بغيره … وفي ضوء ما نرى ونعرف من مواقف عربية وفلسطينية وإقليمية ودولية، خصوصاً إن تبنت الرباعية الدولية مهمة كيري، نرى أن خياراً كهذا يبدو مستبعداً.
الخيار المرجح، هو القبول المشروط بورقة كيري، سيما وأن الإسرائيليين الذين لا حدود لمطالبهم ومخاوفهم الحقيقية و”المفبركة” سيفعلون شيئاَ مماثلاً على الأرجح … سيقبلون بالمشروع ويثقلونه بالشروط والتحفظات، تماماً مثلما فعلوا بخريطة الطريق، التي قبلوا بها، وتحفظوا تقريباً على كل بند من بنودها، إلى أن تسنى لهم إحباطهم وجعلها ورقة صفراء مدرجة في أرشيف المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية، تصلح لاستخدامات الباحثين والمؤرخين.
لكن هذا الخيار بدوره يبدو مفخخاً ومحفوفاً بالمخاطر، اللهم إلا إذا كان المقصود التحفظ على كل بند من بنود مشروع كيري … فالمشروع أسقط حق عودة اللاجئين، والمشروع توسع في مجال تبادل الأراضي ولم يبق من خط الرابع من حزيران سوى إشارة نافلة، والمشروع يشترط “يهودية الدولة”، والمشروع غامض جداً فيما خص القدس، وينبئ بتواطؤ أميركي مع قرار إسرائيل بضم القدس وتهويدها كعاصمة أبدية موحدة للدولة اليهودية، والمشروع يقترح ترتيبات أمنية، تجعل من الدولة العتيدة، لا قطعة جبن سويسرية فحسب، بل كيانا هزيلا مستتبعا لسلطات الاحتلال وخادم لنظرية الأمن الإسرائيلية.
مثل هذا الخيار، حتى وإن تكاثرت التحفظات الفلسطينية حوله وعليه، سيفتح الباب من جديد، لجولات مفتوحة من المفاوضات، فالتمديد سيكون سيد الموقف، والأمر هنا لا يتعلق بمجرد جلسات تفاوضية متباعدة بين الجانبين، بل التزام فلسطيني أحادي الجانب، بعدم القيام بكل ما من شأنه تعكير صفو المفاوضات، من نوع: تجنب استكمال عضوية فلسطين في المنظمات الدولية، وعدم التفكير بمطاردة إسرائيل حقوقياً وجنائياً، وتكبيل يد الشعب الفلسطيني عن ممارسة حقه في مقاومة الاحتلال، وتنظيم حملات مقاطعة ورفض للتطبيع معه، وربما تمتد الشروط الأمريكية – الإسرائيلية لتعطيل خيار المصالحة الوطنية الفلسطينية.
إذن، تبدو الصورة قاتمة بعض الشيء، فليس أمام القيادة الفلسطينية من خيار مريح أو قليل الكلفة، جميعها خيارات مرة بلا شك … لكن ذلك لا يعني للحظة واحدة، أن الفلسطينيين فقدوا خياراتهم … وبمقدور الرئيس عباس وحده، أن يقلب الطاولة على رؤوس الجميع، وإن يعيد صوغ قواعد اللعبة من جديد.
يستطيع الرئيس الفلسطيني أن يشاغل واشنطن وتل أبيب، بجولات تفاوضية إضافية، لكن الأمر سيكون بلا معنى، إنْ لم يقترن باستخدام أوراق القوة التي بحوزته، ولديه بعضها مما لا يحوز التقليل من شأنه أو الاستهانة بأثره … يجب استخدام هذه الأوراق أو التلويح جدياً باستخدامها هذه المرة، منها إبداء الرغبة في تقاعد “غير مبكر على أية حال”، هنا سيكون وجّه لطمة قوية لكل محاولات تجاهل حقوق شعب فلسطين … منها التلويح بإعادة النظر بوظائف السلطة، وصولاً إلى حلها، أو وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال، بما يدفع إسرائيل للانقضاض على السلطة ودفعها نحو حافة الانهيار … منها تسريع المصالحة الوطنية، واستنفار مختلف الطاقات الشعبية والفصائلية، المدنية والحزبية والاجتماعية، للشروع في تنظيم أوسع حملات المقاومة الشعبية للاحتلال … منها أيضاً وأيضاً، البحث عن شبكات أمان عربية وإقليمية ودولية بديلة، للمنظمة والقيادة والقضية، وعدم ترك مستقبل الفلسطينيين ومصائرهم، في “الأيدي الخطأ”، وعدم السماح لجون كيري بالتعدي على حقوق الشعب الفلسطيني، من أجل تحقيق مجد شخصي، أو انتزاع جائزة نوبل بأي ثمن.
ليس الفلسطينيون بلا خيارات أبداً، لديهم القليل منها على أقل تقدير، ويجب العمل على تعظيمها وتوظيفها، ما يتطلب توافر الوعي والإرادة بفعل ذلك، بعد أن أطلت أفكار كيري برأسها القبيح أمام ناظرينا جميعاً، وما ينطبق على الفلسطينيين، ينطبق بهذا القدر أو ذاك، على الأردنيين المتخوفين من مشروع كيري والمتحسبين لنتائجه الكارثية على مستقبل البلاد والعباد.