هل ماتت الثورات العربية حقا..؟
استدعاء هذا السؤال كان اول ما خطر الى بالي وانا اتابع مشهدين: احدهما مشهد الذين خرجوا للاحتفاء بالذكرى الثالثة لثورة 25 يناير في مصر، فهؤلاء الذين تصدروا شاشات وصفحات الاعلام بحماية الشرطة والجيش واطلقوا الاغاني والاناشبد ورقصوا في ميدان التحرير لا علاقة لهم بالثورة، فيما حجبت الصورة تماما عن الاخرين الذين كان لهم نصيب في الثورة، بعد ان قادهم مصيرهم الى الموت او المستشفيات او مراكز الامن، وهي بالطبع مفارقة لافتة، حيث حضرت الثورة كمناسبة لكن الذين احتفلوا بها كانوا خصومها فيما غاب الثوار عن الميدان تماما وعن مشهد الاحتفال ايضا.
اما المشهد الاخر فقد جاءنا من جنيف حيث جلس السوريون من ممثلي النظام ومن المتحدثين باسم الثوار على طاولة واحدة، وكانت الصورة معبرة تماما عن نهاية الثورة، اذْ اوحت بان مجرد الجلوس للتفاوض كان انتصارا للنظام،وبان الطرف الاخر الذي ايقن بان العالم تخلى عنه لم يجد امامه سوى (الحل السياسي) بعد ان اصبح الحل الثوري خارج حسابات الزمن العالمي الجديد.
يمكن ،بالطبع، ان نضيف للمشهدين، صورا اخرى مما يجري في ليبيا التي تحولت الثورة فيها الى ميليشيات تتصارع على تقسيم البلد، ومما يجري في اليمن (وتونس نسبيا) من استعصاء لمسارات الثورة ومخاوف من عودة النظام القديم بصورة او باخرى، لكن يبقى المشهد المصري -تحديدا- شاهدا حيا على ما حدث للثورات العربية من تحولات واضطرابات وما اصابها من جراحات، وبالتالي فان السؤال عن هواجس موت الثورة او احتمالية اجهاضها يبدو مشروعا وملحا ايضا.
الاجابة بالطبع صعبة، فتجربة الثورات في بلداننا العربية ما زالت بكرا، وشعوبنا التي تعرضت على مدى قرون طويلة لموجات متتالية من الاستبداد والفساد ولم تتعلم كيف تدير نفسها كما انه لم يسمح لها ان تقرز نخبها الحقيقة ، ما تزال تعاني من فقدان البوصلة، اضف لذلك ان تراثنا الفكري والفقهي والسياسي يبدو ضامرا وفقيرا في مجال الحديث عن الثورة والحكم والدولة، وبالتالي فان (انطفاء) وهج الثورات في مهدها يبدو مفهوما، لكن غير المفهوم ان لا نبحث في تجارب الاخرين وثوراتهم عن الاجابة لمثل هذة الاسئلة الحائرة.
منذ ان انطلقت الثورة في تونس ثم امتدت الى غيرها من دولنا العربية وانا احاول ان ابحث عن مثل هذه الاجابة، وقد بت مقتنعا تماما (رغم اختلاف العوامل والسياقات التاريخية )ان ما حدث لغيرنا يمكن ان يصيبنا، وبان تجارب الشعوب في التغيير والثورة والديمقراطية “ارث” انساني يمكن ان نستفيد منه، وما يعنيني هنا هو تقديم ما تيسر عن بعض التجارب الانسانية في هذا المجال، وكلها تؤكد حقيقة واحدة وهي: ان الثورات تمر بدورات وتقلبات وصدمات ومحاولات للاجهاض لكن مصيرها -وان طال الزمن- تفرضة ارادة الشعوب، وهي التي تنتصر.لكن كيف سيكون هذا الانتصار؟
خذ معظم الثورات التي حدثت في التاريخ: الثورة الاميركية والفرنسية والرومانية والايرانية والاخرى في تشيلي والروسية..الخ ستلاحظ انها مرت بمراحل انتقالية صعبة وتعرضت لمحاولات من الاجهاض ودفعت الشعوب من اجل انجاحها الاف القتلى ومزيدا من التضحيات، لكن ربما يبدو ما قدمه احد المفكرين الأميركيين(اسمه كرين برينتن) في كتابه (تشريح الثورة )- عرضه أحمد السعداوي في صحيفة الاتحاد- اجابة علمية استاذن القارئ الكريم باثباتها هنا، يقول الرجل بعد ان جمع معلوماته من أربع ثورات كبرى: الثورة الأميركية، الثورة الفرنسية، الثورة البلشفية، الحرب الأهلية في إنجلترا، ان الثورات تمر بأربع مراحل، وهي: “المرحلة التمهيدية” وخصائصها: التنافر الطبقي، لا كفاءة الحكم، النقل الفكري للولاء، فشل القوة. وأعراض هذه المرحلة تتمثل في أن الطبقة الوسطى هي القوة الدافعة وراء الثورة وأنها تعبر بصوت عال عن سخطها بسبب قيود اقتصادية معينة تفرضها الحكومة عليها، وعلى الرغم من أن هذه القوانين ليست رئيسة، إلا أنها كافية لإحداث سخط شديد، وتكون الحكومة حينها غير كفؤة على نحو لا يصدق. وتنهار البيروقراطية، ولا تتمكن من إدارة البلاد على نحو فعّال، اما المرحلة الثانية “حدوث الثورة نفسها” فتتميز بخصائص : الانهيار المالي، زيادة الاحتجاجات ضد الحكومة، الأحداث المثيرة، استيلاء المعتدلين على السلطة، فترة شهر العسل. ويصف برينتن هذه المرحلة بـ”الحمى الصاعدة” والمتمثلة في تصاعد سخط الطبقة الوسطى، حيث يثور الشعب إذاك وتتوج ثورته بمعركة مثل اجتياح الباستيل وينهار الهيكل الحكومي تحت ضغط الديون المالية والانتفاضة الشعبية، ثم يشكل المعتدلون أو الوسط السياسي حكومة جديدة، غير أن الحكومة المعتدلة الجديدة تظهر أنها غير قادرة على الصمود في وجه مشاكل إدارة الدولة والأزمة الاقتصادية ووضع دستور جديد وغير ذلك. ويرى ان المرحلة الثالثة، هي مرحلة الأزمة، وخصائصها: تولي المتطرفين السيطرة، إبعاد المعتدلين عن السلطة، الحرب الأهلية، الحرب الخارجية، تركيز القوة في مجلس ثوري يسيطر عليه رجل قوي.
يعتقد برينتن إنه في هذه المرحلة تبلغ الثورة الذروة عندما يصبح المعتدلون عاجزين عن أداء مهمة حكم البلاد، ويطيح بهم المتطرفون أو اليسار السياسي بالقوة، ويبدأ حكم الإرهاب حيث يشرع المسرفون في التطرف بالتخلص من المعارضة باستخدام العنف، كما قد تعمد الحكومة الجديدة -عادة- الى خوض حرب خارجية في محاولتها نشر مبادئ الثورة، هنا تبدأ الثورة بفقد زخمها ولا يعد الشعب يساندها إلا خوفاً من التطهير، كما أنه بسبب تفاقم الأزمة الاقتصادية يواجه الثوريون تهديداً داخلياً متزايداً.
تبقى المرحلة الاخيرة وهي مرحلة الخلاص، ومن خصائصها: العودة البطيئة غير المنتظمة إلى أزمنة تتسم بهدوء أكثر، حكم الطاغية، قمع المتطرفين، حصول المعتدلين على العفو. النزعة القومية العدوانية. ويصف برينتن هذه المرحلة بـ “النقاهة” لأنه مع تزايد ضعف الثورة تدخل البلاد فترة الانتعاش، ويتولى السلطة حاكم مركزي قوي ويشرع في عملية إعادة الاستقرار إلى البلاد.ويستبعد أو يعدم زعماء الثورة الأكثر عنفاً، كما يُمنح المعتدلون عادة العفو ويبدأ الناس في التخلص من أي علامات باقية من علامات الثورة ويغيرون ملابسهم وأسلوب حياتهم في محاولة لنسيان الثورة، ويتخلون في تلك العملية عن الكثير من العقائد المتسمة بالتطرف التي يؤمن بها الثوريون.
السؤال : هل ستمر ثوراتنا العربية في هذا المسار او سيكون لها مسار اخر جديد، سنحاول الاجابة قريبا.