نحن ومنخفض جون كيري القطبي!!
لكأننا نمارس هوايتنا المعتادة عند هبوب المنخفض القطبي أو عشية قدوم شهر رمضان المبارك، نهرع إلى الأفران والأسواق، فنشتري كل ما تطاله أيدينا وتسمح به جيوبنا …. هذه المرة المنخفض سياسي بامتياز، ولقد هرعنا (أو كثيرون منا) إلى التحسب والتحوط، بل وإطلاق الأحكام والبناء على “الكارثة” مقتضاها أو مقتضياتها…. مواقع الكترونية تضج بعشرات التعليقات والنبوءات السامة، وبيانات تصدر عن (قوى رصينة) أو هكذا يفترض بها أن تكون، تحذر من الكارثة كما لو كانت اندلعت، وحالة من القلق والتوتر يزيد في درجة حرارتها وانفعالها، فيض التسريبات الذي لا ينقطع، ويضخ يومياً المزيد من غث المعلومات وسمينها.
وسط صمت حكومي، لم تبدده التصريحات العامة، يُترك الرأي العام الأردني نهباً لـ “الإسرائيليات”، ومن يرجع إلى تاريخنا العربي الإسلامي، يعرف تماماً أثر “الإسرائيليات” في تشويه العقائد وتحريف المقاصد وزرع بذور الشك والشقاق، وإشاعة حالة انعدام الثقة والطمأنينة … وليس ما نعيشه اليوم بمختلفٍ عمّا عاشه الأجداد بالأمس على أية حال.
هناك فرق بين “تقدير البلاء قبل وقوعه” لمنع وقوعه من جهة والتصرف كما لو أنه بات أمراً واقعاً مفروضاً علينا كالقدر الذي لا رادّ له من جهة ثانية … في الحالة الأولى، المطلوب مواقف وسياسات وقائية واحترازية واستباقية … في الحالة الثانية، نكون كمن خسر المعركة قبل أن يطلق رصاصة واحدة، فالهزيمة تبدأ نفسية في الغالب، وتتكرس بإشاعة الفرقة والانقسام، وتتأبد حين يدخل بعضنا مع بعض في حرب “داعش والغبراء” على حد تعبير الأستاذ خيري منصور، الذي درج بعد ذلك في مقالات كتّاب عديدين.
لا شك أن مشروع كيري، يحمل حلاً تصفوياً للقضية الفلسطينية، ينذر بضياع القدس والمقدسات واللاجئين والسيادة وبعض الأرض ومعظم الحقوق … لكن من قال إن طريق هذا المشروع بات سالكاً وآمناً، فلسطينياً وأردنياً … من قال إن الفلسطينيين “بصموا” على أفكار كيري ومقترحاته، وأن كل ما ينتظرونه هو “البصمة” العربية على هذا المشروع، فيما يشبه شبكة الأمان التي يحتاجها من اعتاد القفز من ارتفاعات شاهقة.
الفلسطينيون لم يقولوا كلمتهم الأخيرة بعد، وحتى ذلك الحين، فإن المطلوب هو تدعيم صمود الشعب والقيادة والمفاوض، في مواجهة ضغوط تعجز عن حملها الجبال، المطلوب التصدي لمن يمارس هذه الضغوط على الجانب الفلسطيني، لا النظر للمسألة بوصفها “سانحة” للانقضاض على السلطة والمنظمة والرئاسة، ولغايات وأهداف، لا صلة لها لا بالمشروع الوطني الفلسطيني أو الأردني أو القومي العربي، بل لحسابات صغيرة ومناكفات لا تخفى مراميها ودوافعها على أحد.
أما حكومتنا العتيدة، فهي مطالبة كما السلطة الفلسطينية، بما يتعدى العموميات ويتخطاها …. الطرفان مطالبان برفع وتائر التنسيق وسوية المصارحة والمكاشفة، والأهم، فإن المطلوب منها مصارحة الشعبين الأردني والفلسطيني على حد سواء، بما يجري وما المعروض وما الموقف من كل هذا وذاك وتلك … فمن غير المنطقي بحقنا أردنيين وفلسطينيين أن نظل نأخذ معلوماتنا من “هآرتس” و”معاريف”، سيما وأن ما يجري تداوله، شديد الحساسية، وكفيل إن صح بزرع ألغام على طريق العلاقات بين الشعبين الشقيقين .
ليس ثمة من طريق للتهدئة المخاوف وتوحيد الجهود والطاقات، أقصر من طريق المصارحة والمكاشفة، سيما وان العلاقة الأردنية – الفلسطينية تجاوزت في السنوات الخمس عشرة الفائتة على أقل تقدير، قطوع الشك والتشكيك، وأعيد تأسيسها على قاعدة الاحترام والثقة المتبادلين، ووفقاً لنظرية “الأردن أردن وفلسطين فلسطين”.
أما الإعلام الباحث عن “خبطة”، فإن “لا مهنية” بعضه و “لا مسؤوليته، تجعل منه صباباً ضخماً يضخ الزيت الحار على نار المخاوف والهواجس، ما يزيد المشهد تعقيداً وتوتيراً، في ظل إحجام الإعلام المهني والمسؤول، عن القيام بدوره، أو عدم القيام به على النحو المطلوب … وهذا أمر يعيدنا دائماً إلى ما تشهده أروقتنا من جدل حول صحافتنا وإعلامنا في ظروف الأزمات والانعطافات الحادة والكبرى في حياتنا.
نأمل أن يتقدم لنا من لديه “المعلومة” و”القرار” بجردة حساب مع جولات كيري الـ 11، وأن يطلعنا على مفاصل التفاوض الدائر حول مصائرنا ومستقبلنا، ويطمئننا قولاً وفعلاً إلى أننا سائرون على الطريق الصحيح: طريق الاستمساك بالحقوق، كل الحقوق، شرق النهر وغربه.