0020
moasem
sum
003
004
006
007
008
Bash
Hofa
Diamondd
previous arrow
next arrow

كتابة من الداخل!!

بدأت الحكاية مع صحفي اميركي ابيض قرر الكتابة عن معاناة السود في اكثر احيائهم شقاء، وكان يدرك بأن ما سيسمعه منهم سيبقى معظمه طي الكتمان، واضطر الى طلاء وجهه وجسده باللون الاسود، كي يطمئن له الاشخاص الذين كان يحاورهم، ولو كان يعرف المثل العربي الشعبي وهو «الحكي مش مثل الشوف» لجعله عنواناً للتحقيق الذي نشره لكنه بالتأكيد يعرف مقولة عالمية وبكل اللغات هي من يتدفأ على الجمر ليس كمن يغرز أصابعه فيه!

ثم تكررت المحاولة مع صحيفة قررت ان تكشف أسرار العالم السفلي للمومسات ففعلت ما كن يفعلن في تلك الايام وما قبل الموبايل وشبكاته، وقفت مثلهن تحت أحد اعمدة النور وتبادلت الكلام مع زبائن لكنها بالطبع لم تذهب الى نهاية المطاف، وما فعله صحفي مصري اسمه وليد حماد هو شيء من هذا الطراز، فقد تنكر في ثياب امرأة وأخذ يتمشى في شوارع وأزقة القاهرة بمفرده ليرصد حالات التحرش، وقد جرب ذلك مرتين، الأولى تقمص فيها شكل فتاة سافرة وذات ثياب حديثة والثانية ارتدى فيها حجاباً، وما انتهى اليه هو ان كل ما سمعه كان بذيئاً بكل المقاييس، لكن البذاءة كانت اكبر في الحالة الثانية التي ارتدى فيها الحجاب.

ما استوقفني في هذه التجربة هو ما شاهدته بالفعل قبل بضعة اعوام، عندما رأيت الصديق الكاتب محمود صلاح يغادر المقهى وقد وعدنا بمفاجأة لا يستطيع اي منا ان يحزرها، بعد اقل من ساعات وقفت بباب المقهى امرأة ذات نقاب وتبدو من ثقبيه على العينين نظارة طبية ملونة، وما ان خطت بضع خطوات في شارع سليمان باشا حتى سمعنا صراخاً وبدأ المارة يتدخلون، كما تدخل احد رجال الشرطة، ولم يعد محمد الينا ليخبرنا بالحكاية، لكن مجلة اخبار الحوادث التي كان يرأس تحريرها نشرت في اليوم التالي تحقيقاً صحفياً مثيراً، ظهرت فيه المرأة المنقبة وهي تشتبك مع اشخاص وفي نهاية التحقيق كتب محمود انه هو شخصياً من تنكر بزي امرأة، لكنه كما اخبرني كان ابلغ وزارة الداخلية بما سوف يفعله كي لا يتورط بالتباس غير محسوب العواقب.

الكتابة من الداخل تختلف شكلاً ومضموناً عن الكتابة من السطح، فالمشهد الذي يوصف من سطحه فقط لا يقول لنا شيئاً على الاطلاق، بعكس الرؤية من الأعماق ومن العالم السفلي الذي تكمن فيه اللواعج والأسرار والهواجس المكبوتة.

ولأن الشيء بالشيء يذكر فقد رويت للصديق محمود صلاح تجربة قام بها الأكاديمي العربي المعروف حليم بركات وفريق من الباحثين الاجتماعيين، زاروا مخيم زيزياء وهم يعدون بحثاً اجتماعياً، وانتهى البحث الى ان معظم ما سمعوه من العينات التي تحاوروا معها كان غير دقيق ويفتقر الى الصراحة؛ لأن الانسان بطبعه لا يكون أليفاً وحميماً وصادقاً الا مع اشخاص بينه وبينهم قواسم مشتركة، فالفقراء يجهرون لبعضهم بما لا يقولونه للاغنياء، والعكس صحيح ايضا.. كما ان المرضى يطمئنون بدرجة اعلى الى المرضى الآخرين.

ان تعزيز هذه التجارب وهي الكتابة من الداخل من شأنه ان يفضي الى نتائج يمكن الوثوق بها والإركان اليها.

فالصورة العفوية التي تلتقط لأفراد العائلة ليست كتلك التي يصطنع الإنسان فيها نظرة وابتسامة وحركة مفتعلة!