لكي تستعيد صورتنا بياضها..!!
كانت ايام الثلج الماضية –بالنسبة لي على الاقل- فرصة لأخذ قسط من الراحة والهدوء،والخروج من “زحمة” السياسة والتبصر بمشهدها العام وهو مغطىً “بالبياض”.
أفهم –بالطبع- وأقدّر ايضاً كل ما سمعته من انتقاد حول ما اصابنا من “شلل” نتيجة تساقط الثلوج او حول انقطاع الكهرباء عن بعض مناطقنا ومدننا،او استمرار انغلاق الطرق او ضعف امكانيات بعض مؤسساتنا في مواجهة مثل هذه الظروف او “ارتباك” المواطن واندفاعه لشراء مسلتزماته وحاجاته بشكل غير مبرر، او ما يمكن ان يخطر في بال الذين “وضعوا” ملاحاظاتهم حول ادائنا العام، سواء اداء المؤسسات الرسمية، او اداء المجتمع، في الايام المنصرفة التي لا أعتقد ان “الثلوج” فاجأتنا بها كما اشار بعض الدين شعروا بالحرج جراء تقصيرهم عن آداء الواجب.
لكن من الإنصاف ان ننظر الى الجزء الآخر من الصورة، وهو جزء يمنحنا ما افتقدناه من امل على امتداد السنوات الماضية، بمؤسساتنا اولا وبمجتمعنا ثانيا،كما يمنحنا فرصة للخروج من “دائرة” جلد الذات ومعاقبتها، والاحساس –احياناً- بعقدة “النقص” والتلذذ بالشكوى والتذمر، والرهان عند البعض على قابلية مجتمعنا للتقسيم وقلة حيلة الناس على التصدي “للخطر” ومواجهة الازمات.
هذا الجزء “المسكوت” عنه يبرر حالة الانسجام – ولو في حدّه الادنى- بين مؤسساتنا التي عملت في الميدان،كما تبرز “العافية” التي يتمتع بها مجتمعنا،فلقد استطاعات معظم مؤسساتنا ان “توّحد” جهودها في إطار خطة عمل مقبولة نحو مواجهة “الازمة”،صحيح ان ثمّة اخطاء قد حصلت، لكن الصحيح ايضا ان كل جهة حاولت ان “تسدّ” تقصير الجهة الاخرى، وان تتعامل مع الحدث بمنطق التعاون والتكامل لا بمنطق التضارب او التحديّ او القاء تهم التقصير، وهي سمة “للأسف” كانت غائبة في ظروف أخرى، ولو حضرت -كما حصل في موسم الثلج- لتجنبنا كثيراً من المطبات وتجاوزنا ما واجهنا من أزمات لم تكن لتتراكم لو كانت مؤسساتنا على “قلب” واحد.
اما فيما يتعلق “بعافية” المجتمع فقد كشفت “الثلوج” عن طبيعة ما يتمتع به الناس في بلادنا من خصائص ايجابية، أهمها “االتوحد” في مواجهة الازمات، والتكافل والتراحم لتخفيف آثارها، فلقد اختفى العنف فجأة من “الصورة” النمطية التي ألفناها، كما اختفت جرائم السرقة والبلطجة، ورأينا كيف يزدحم الناس “لمساعدة” من احتجزتهم الثلج في الطرقات، او لتقديم “العون” لمن داهمته الثلوج، او لإغاثة من انقطعت بهم سبل الوصول الى المشافى والبيوت، ومع ان هذه الصورة هي صورة مجتمعنا الحقيقية قبل ان تشوهها ردود الافعال التي نعرف اسبابها،الا انها عبرت في مثل هذه الظروف الصعبة عن “امكانية” لا بل ضرورة ان ندقق جيداً في احوالنا الاجتماعيّة والعامة من جهة معرفة ما اصاب قيمنا من تحولات واضطرابات وما يجب ان نفعله لتخليص مجتمعنا منها لا بالاناشيد والخطابات والوعود وانما بالعمل الحقيقي الذي يتعهد جذور المشكلات لمعرفتها ولتشخيصها…وصولا الى معالجتها واصلاحها.
هذه الانطباعات – بالطبع-، ليست شيكاً على بياض، واذا كانت “بروفة” الثلج –كما قلت- منحتنا الفرصة لاعادة الاعتبار والتقدير لاداء مؤسساتنا ومجتمعنا متى تركنا لها المجال للتعبير عن “قدراتها” على العطاء بعيداً عن “اجندات” السياسة وصارعاتها، فإن هذه “الروفة” ذاتها تفرض علينا استثمار هذه “الحالة” وقراءاتها بعيون مفتوحة على جوانب التقصير والخلل، لا بمنطق الشماتة وتبادل الاتهامات ولا بمنطق “التوظيف” الذي ولد لدينا مزيداً من الازمات، وإنما بمنطق الاصلاح والبناء والنقد الهادف، وخاصة فيما يتعلق “بجاهزية” البنى التحتية لمدننا وشوارعنا وقرانا، وبأمكانيتنا لمواجهة هكذا ازمات، وبجدوى “الهروب” الى تعطيل مرافقنا العامّة، وبثقافة “المواطن” تجاه هكذا ازمات وبإدارتنا العامة عند التعامل مع مثل هذه الظروف.
رؤية الجانبين الصورة : الجانب المضيء والاخر المعتم، لا تعيد الينا فقط “قيمة” الانصاف التي افتقدناها عند تقييم اعمالنا والحكم عليها، وانما تعيد الينا ايضا قيمة “قدرتنا” على الانجاز وفضيلة اعترافنا بالخطأ كما تدحض فكرة او تهمة “العجز” والارتباك التي يحاول البعض ان يحاصرنا بها حين تمتد “طموحاتنا” الى الاصلاح او الديمقراطيّة او حين يريد البعض ان “بفزعنا” بسيناريوهات هشاشة مجتمعنا او مخاوف “انقسامه” ويشحد من اجل ذلك ما يلزم من حجج لإبقائنا في مربع “الصمت” والقبول بالواقع خوفاً من التغيير.
ربما يرى البعض فيما ذكرته “نوعاً” من الافراط في التفاؤل او صدى “للبياض” الذي عكسته الثلوج التي تراكمت فوق جبالنا وسهولنا، ربما وقد يكون معهم حق في ذلك، لكنني مع الاحترام اختلف معهم، فأنا اعتقد بأن ما رأيناه في الايام الثلاثة الماضية هو صورة “مجتمعنا” الحقيقية لا صورته “الطارئة”، وصورة مؤسساتنا التي كانت نموذجاً للنظافة والتضحية قبل ان تداهمها ما نعرفه من “انحرافات”، ومثل هذه الصور لا تظهر الا في الازمات الصعبة، وما كان يمنع ظهورها نعرفه جيداً للأسف، لكن تبقى هذه الفرصة –ضروريّة- للتذكير بها، ومحاولة استعادتها وتثبيتها والاحتفاء بها ايضاً وهذا ما قصدته فعلاً.