كوكب مانديلا!!
ليس لأنه قضى في الزنزانة سبعة وعشرين عاماً، فثمة من سجنوا أياماً فقط وخرجوا لينكلوا بالبلاد والعباد، وليس لأنه تمتع بمناقبية فريدة في عصر لا فروسية فيه، بل لانه علامة فارقة في نهايات قرن غاشم هو القرن العشرون، أقصر القرون اعواماً واطولها حروباً واكثرها شقاء، منذ بدأ مع الحرب العالمية الاولى وانتهى قبيل موعده مع الحرب الباردة.
الاجماع الكوني على مانديلا يؤهله لان يتجاوز اسم شارع يطلق عليه او حتى اسم بلد، فهناك بلدان تنسب احيانا الى زعيم أو فيلسوف أو شاعر عظيم، وهذا ما قاله تشرتشل عن بريطانيا بأنها بلد شكسبير وما قاله ستالين عن روسيا بأنها بلد ديستوبنسكي وما قيل عن داغستان ايضاً بأنها بلد رسول حمزاتوف.
مانديلاً جدير باسم كوكب، حتى لو كانت هذه الارض التي تدار ولا تدور، والتي اوشكت ان تتحول الى قبر جماعي، بعد ان حولتها الرأسمالية المتوحشة الى زنزانة بسعة كون!
رحل وهو يقترب في عمره من قرن، لكن السبب المزمن بدأ من الزنزانة عندما أصيب بالسل وهذا هو جذر الداء والبلاء معاً.
رقص مريدوه ومن يدينون له بالانعتاق والحرية حول سريره بدلاً من البكاء، لأن أمثاله لا يليق بهم حداد تقليدي، بل يودعون برقصة تستلهم منه خطاه، عندما رقص ذات يوم بقميص افريقي فضفاض وملون وكأنه يرتدي الربيع كله!
مثال بقدر ما هو أمثولة، فهل يغار من موته وهو حي موتى تجرهم اقدامهم نحو وداع شامت يكسر فيه وراءهم الفخار كله؟
انه من سلالة خضراء، تولد في التابوت أما القابلة فهي قارة كظمت الغيظ قروناً واستبيحت، لكنها خرجت من القمقم بفضل أمثاله.
مانديلا علامة عصر فارقة، بقدر ما كان البعض من أبناء فضائح اخلاقية، لهذا يتضح بياضه الناصع والأشبه بندف الثلج والياسمين قياساً الى سواد البيض المطليين بالكلس والذين لم يكن دمهم الا حبراً أبيض.
تسامح مع خصومه كي يلقن السجان درساً بليغاً وغير مسبوق، لا تشوبه الثأرية لانه اعلن العصيان على جلاديه فلم يكررهم وتلك هي آية الضحية النبيلة التي لا يعيد جلادها اعادة انتاجها على غراره ودفن الوصفة القبيحة لتكوينه السادي!
برحيله لن تكون القارة الخضراء من فرط سوادها أرملة، لأنه ألقى بذوره في الارض، وسيولد من صلبه أبناء وأحفاد يجعلون التاريخ يعتذر ويصحح مجراه باتجاه مصب آخر غير الذي قرره الرجل الأبيض البشرة والاسود القلب والروح.
ورغم رحيله المتوقع وقد بلغ الخامسة والتسعين وابهظت الكهولة جسده النحيل الا ان لموته رنيناً يتفوق على رنين مناجم افريقيا كلها لو تحولت الى ذهب وفضة وماس ونحاس.
لو كان أقل مما هو قليلاً لاطلقوا اسمه على شارع أو مدينة، لكنه استطال حتى أصبح جديراً بأن يطلق اسمه على كوكب.
مثال قدر تعلق العصيان بالاستبداد والعنصرية وأمثولة قدر تعلق الواقعة التاريخية بالرمز.
رحل مانديلا بجسد عليل ونحيل لكن بكامل عافيته الانسانية والاخلاقية