«الخلافة» في كوبنهاجن … لم لا؟!
أن تنبري قوى وأحزاب إسلامية في بلادنا للتحريض ضد المشاركة في الانتخابات العامة، بلدية كانت أم برلمانية، بدعوى أنها “حرام” وخروجاً على شرع الله، فهذا أمر يمكن فهمه ووضعه في سياقه الثقافي والاجتماعي التاريخي، مع أننا نرفض الفكرة من حيث الأصل والمبدأ، لكن أن تنبري القوى ذاتها، للتنديد بالديمقراطية والانتخابات في بلد كالدانمارك، فهذا أمر غريب ومستهجن حقاً، وأن يتوزع ناشطون من هذه القوى على مراكز الانتخاب والتجمعات الشعبية لتكفير من سيدلي بصوته في الانتخابات البلدية التي شهدتها الدانمارك قبل يومين، فهذا سلوك يحتاج إلى “ديمقراطيين حقاً” لابتلاعه وهضمه، بل والتعامل معه كحق من حقوق الإنسان، لا يجوز المساس به، كما رأينا ولاحظنا على هامش الجدل الانتخابي العام.
سلفيون و”تحريريون” يوزعون منشورات في كوبنهاجن وغيرها من المدن الدانماركية، تقول: “الديمقراطية ليست هي بحكم الله ورسوله، وما دامت كذلك، فهي حكم الجاهلية”، يقال مثل هذا الكلام للدانماركيين وخصوصاً من ذوي الأصول العربية والإسلامية …. “الديمقراطية دين، ومن يبتغ غير الإسلام ديناً فلن يقبل منه” … الديمقراطية كفر وشرك، وتقوم على السيادة للشعب، فيما “إن الله هو الحَكَم والحُكم له” … والديمقراطية حكم الأكثرية والله يقول (وإن تُطِع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله) … والديمقراطية تجعل الشعب بالخيار، إن شاء حكم بالإسلام وإن شاء يحكم بغيره فيما الأصل (وما كان لمؤمن ولا لمؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن تكون له الخيرة من أمرهم) … إلى غير ما هنالك من فتاوى واجتهادات، يُراد فرضها على شعب ودولة ومجتمع، اختبر الحياة الديمقراطية منذ مائتي عام أو يزيد، وينظر للمتحدثين بهذا المنطق، كما لو كانوا زوّاراً من كوكب آخر.
عشرات ألوف العرب والمسلمين يعيشون في الدانمارك، منذ عشرات السنين … بعضهم بنى لنفسه حياة كريمة وينافس في الانتخابات على مواقع قيادية … بيد أن كثيرين منهم ما زالوا على هامش هذا المجتمع، ويقتاتون على أموال دافعي الضرائب، ومن بينهم أصحاب هذه النظريات الغريبة، الذين يتمنّع كثيرون منهم عن العمل ويصرفون جل وقتهم في السعي لإرساء قواعد “إمارتهم الإسلامية” هناك، ولا يترددون في الانتفاع بأموال الكفار والمشركين، لكأنها “جزية” تدفع لهم عن يدٍ والدانماركيين صاغرون.
للحركات السلفية في أوساط الجاليات الإسلامية في الغرب نفوذ كبير، بدأ بعد الثورة النفطية في أواسط السبعينيات، وتجذّر بفعل عائدات البترودولار … يعيشون في أكناف دول لها حضارتها وثقافتها، ويمارسون الدعوة بكل حرية، وهم الذين يضيقون ذرعاً بأبناء جلدتهم من مسيحيي دولهم ومجتمعاتهم، دع عنك الدروز والعلويين والشيعة والصابئة وغيرها من مكونات مشرقنا العربي … يستنفذون “تسامح” الغرب معهم حتى آخر قطرة، ولا يبدون في المقابل أدنى قدرٍ من التسامح حيال بناء كنيسة أو ممارسة شعائر دينية لأي فئة “كافرة ومشركة” … يلعنون الديمقراطية ويكفرون الديمقراطيين، وهم الذين يَسبَحون في فضائلها ليل نهار، ويُسبحون بحمد وفضائل قراءاتهم المتطرفة لرسالة السماء.
إنهم يجعلون حياة الكثيرين من أتباعهم في دول المهاجر والمغتربات جحيماً لا يطاق، لا هم عرب ولا دانماركيون، لا هم مسلمون ولا مسيحيون، لا هم هنا ولا هم هناك … أنها الأزمة الأعمق التي تجابه الأجيال الشابة بخاصة، وتحمل 75 دانماركياً على الذهاب إلى سوريا للالتحاق بالجهاد والجهاديين، وملاقاة مصائرهم الصعبة هناك، بعد أن يكونوا قد نجحوا في تصوير عدة فيديوهات، تصورهم تحت الرايات السوداء، وأحياناً وهم يقطّون رؤوس المسيحيين “الكفرة” من دون أي إحساس بالتقدير والامتنان لمجتمع مسيحي آواهم بعد تشرد، ومنح عائلاتهم كل ما تحتاجه من سبل العيش الكريم، مما عزّ عليهم الحصول عليه في مجتمعاتهم المسلمة.
أما حزب التحرير، فالدانمارك هي ثاني بلد في العالم تمنح الحزب “ترخيصاً” لمزاولة أعماله، بعد لبنان … في لبنان كان مفهوماً أن يقدم أحمد فتفت وزير الداخلية بالوكالة في حكومة السنيورة على ترخيص الحزب نكاية بحزب الله … أما الدانمارك فليس لديها من تناكفه أو تستقوي بحزب التحرير عليه، ومع ذلك تمنح الحزب ترخيصاً ليقوم بتكفير نظامها السياسي ومجتمعها ومعتقدات الغالبية الساحقة من سكانها، هكذا بكل صلف، ومن دون أن يرف لهؤلاء جفن، بل ومن دون أن يمنعهم ذلك من السعي لإقامة “الخلافة” حتى وإن في كوبنهاجن.