لكي لا تكون دعوة لترك الصلاة
في عيد الاضحى الماضي اعلن رئيس النقابة الوطنية للاطارات الدينية بتونس “اسمه الفاضل عاشور” عن تنفيذ “اضراب عام” من قبل الائمة احتجاجا على تردي اوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية، وقد اثار هذا الاعلان جدلا واسعا في تونس، حيث وصفه مفتي الجمهورية بانه “اقوى نكتة” بعد الثورة، معتبرا ان “اغلاق المساجد” وعدم اقامة صلاة العيد مخالف للشرع، فيما تبرأت قيادات دينية اخرى منه مما دفع القائمين عليه الى تأجيله.
في اخبار امس، يعتزم نحو “500” موظف “من بينهم ائمة وخطباء” بوزارة الاوقاف تنفيذ اضراب عن العمل يوم الاثنين المقبل احتجاجا –ايضا- على تنفيذ قرار سابق لمجلس الوزراء يتعلق ببعض العلاوات والمياومات، ومع ان الدعوة لم تحدد فيما اذا كان الاضراب ليوم واحد او انه سيكون مفتوحا الا ان مجرد تنفيذها “سيعطل” اقامة الصلاة في عدد كبير من المساجد، مما يطرح السؤال الذي تردد في تونس وهو: هل يجوز “للامام” ان يضرب عن اقامة الصلاة في المسجد الذي يتولى امامة المصلين فيه؟
لا شك ان من حق كل مواطن ان يطالب بحقوقه وان يلتمس الوسائل المشروعة لايصال صوته الى المسؤول والى الناس ايضا، والموظفون –والائمة تحديدا- هم جزء من هذا المجتمع، وبالتالي فان مطالبهم تبدو مفهومة ما لم نسمع ردا من الوزارة يدحض حججهم، لكن المسألة هنا بالنسبة للأئمة وخدام المساجد مختلفة تماما، فاضرابهم عن العمل في بيوت الله تعالى لا يستقيم دينيا ولا اخلاقيا، والاعتبارات هنا عديدة منها ان الامام ليس موظفا بالمعنى الحرفي للكلمة، وانما “مكلف” ومتطوع في آن معا لاداء رسالة من اعظم الرسائل، وهي رسالة الدعوة الى الله، ومنها ان “موقعه” هذا يفرض عليه سلوكا يتمايز فيه عن غيره من “الموظفين” باعتباره نموذجا لهم، ومنها ان حقوق “الجماعة” سواء اكانت تتعلق باقامة الصلاة في المسجد او غيرها، تتقدم على حقوقه الشخصية، زد على ذلك ان ثمة وسائل “احتجاجية” اخرى يمكن ان تكون بديلا عن “الاضراب”.
للتذكير فقط، سبق لبعض اخواننا “الائمة” ان لوّحوا العام الماضي بتخصيص خطبهم يوم الجمعة “لكشف” ملفات الفاسدين اذا لم يتم الاستجابة لمطالبهم باقامة نقابة لهم وكنت اعتقد –آنذاك” ان هذا التلويح مجرد “هزل” او “فشّة” خلق غير مقصودة، لكن احدهم اكد لي ان الامر جدّ، وان لديهم “ملفات” تتعلق بوزارتهم وبغيرها وسيبدأون بكشفها، وحين سألته عن “اخلاقية” هذا السلوك “دعك من مشروعيته الدينية” حيث يفترض فيهم اصلا ان لا يسكتوا على مثل هذه التجاوزات، قال لي: نحن لا نقايض هنا وانما لا نريد “الجهر بالسوء” من فوق المنابر الا اذا لم نجد سبيلا لرد “الظلم” الواقع علينا.
ادرك –بالطبع- ان المنابر ليست “المكان” المناسب لفتح “ملفات” الفساد، وان كان في صلب دورها تحذير الناس من الوقوع فيه، وحثهم على كشف المسؤول عنه، كما ادرك ايضا ان “ضيق” الحال على الناس قد يدفعهم احيانا الى “الكلام” والتصرف بانفعال، لكن الدعوة الى الاضراب التي اشرت اليها سلفا، وخاصة اذا ما ادّت الى “تعطيل الصلاة” في المساجد لا تبدو مقبولة ولا مبررة ايضا (بالمناسبة “تعطيل” حاجات الناس وقضاياهم الدنيوية ايضا بسبب الاضراب تحتاج الى نقاش اخر)، وحسب اخواننا في وزارة الاوقاف ان يخرجوا من هذا “الالتباس” بتطمين الجميع على ان “الاضراب” لن يتسبب في تعطيل العبادة واغلاق المساجد، او ان يبحثوا عن وسيلة اخرى للاحتجاج تبعدهم عن هذا الحرج.
ما دمت بدأت “باضراب” الائمة في تونس، فسأعود الى قصة احد علمائها المشهورين “اسمه محمد الدوكالي”، هذا الرجل سجّل اول حالة في “الاضراب عن الصلاة” حيث اجتهد احد معاصريه من العلماء وهو “الامام ابن عرفه” في اواخر القرن الثامن “790” بالطلب من حاكم البلاد آنذاك بتخصيص جزء من اموال المسلمين لأئمة المساجد والقائمين على خدمتها، وقد استجاب الحاكم لذلك مما دفع “الدوكالي” الى استنكار هذا القرار واعلان اعتزال المساجد وصلاة الجمعة والجماعة معللا ذلك “بعدم صحة الصلاة وراء امام مأجور”.
طبعا هذا مجرد موقف سجّلة عالم من كبار علماء جامع الزيتونة قبل مئات السنين، لكن الصورة اختلفت الآن، وخاصة في مسألة “الاجرة” للامام، ومع ذلك فان ثمة آدابا واخلاقيات وقواعد شرعية لا بدّ ان تُراعى، لا سيما ممن يعملون في الاطار الديني،سواء اكانوا “موظفين” او ائمة او دعاة او مفتين، فهؤلاء اولى الناس واجدرهم بالابتعاد عن “البدع” والالتزام بقيم الدين والاخلاص لعملهم، وعدم الوقوع في “فخ” الشبهات، لتقديم افضل ما يمكن من نماذج لغيرهم، ودحض كل ما يقال من “تهم” تساق ضدهم بقصد الاساءة الى الدين الذي يتحملون امانة تبليغه…