مكاشفات لا بدّ منها..!!
الصورة المثالية “المتخيلة” للكاتب في ذهن القارىء هي أنه يمثل “ضمير المجتمع”، يتماهى مع قضاياه ومشكلاته، ويعبّر عنها بصدق وأمانة، وينحاز إليه مهما كانت الاضطرارات والاكراهات.
لكن الصورة الحقيقية قد تبدو خلاف ذلك، إذ يمكن ان تختلط لدى الكاتب أولويات الذاتي مع الموضوعي، أو ان يخضع “لاغراءات” المجال العام، او ان يقع في محذور “الانحياز” لطرف ما على حساب “الحقيقة” وعندها تتزعزع ثقة القارىء به، ويتحول من وظيفة “ناطق” باسم الضمير العام الى موظف في مجال “الهوى العام”.
تحتفظ ذاكرتنا – بالطبع- بأسماء “كتاب” ما زلنا نحترمهم، ونقدّر تجربتهم، بعضهم رحلوا وتركوا لنا “نماذجهم” الإنسانية والثقافية وبعضهم ما زال “صامدا” على خط الدفاع الأول عن المجتمع، وهؤلاء يشكلون “صورة” ملهمة لأجيالنا التي تتلمس طريق البحث عن “الحق” والنزاهة واحترام قيمة الكلمة.
الكاتب -بالطبع- ليس “نبيا” ولا واحدا من الملائكة، فهو يصيب احيانا و يخطىء احيانا اخرى، لكن “موضوعيته” لا تقاس على مسطرة هذا الاجتهاد المسموح به، وانما “مسطرة” الموقف او الخط العام الذي ينتهجه، وهو -بالتالي- بحاجة دائما الى مصارحة قرائه، وكشف الحقائق امامهم، والاعتذار عن اخطائه، والقارىء ذكي بالطبع يعرف ما يدور في صدر الكاتب، ويستطيع ان يميّز بين الخطأ والخطيئة، وبين الاجتهاد والتضليل، وبين من يحترمه ومن يتذاكى عليه.. لا يستطيع الكاتب في بعض الاحيان ان يكون ما يتمنى “القارىء” فقد ينظر الى قضية ما من زاوية اخرى غابت عن القارىء، وقد يضطر احيانا الى “الصمت” لأن المجال العام امامه لا يسمح له بابداء رأيه، وقد يوازن بين “اولويات” فيختار الاقل ضررا على مؤسسته ومصالح العاملين فيها، وقد يقع في دائرة “التضليل” بحكم معلومة جاءته من مصدر يثق به ثم تبين له انها ليست صحيحة، وقد يخضع احيانا للمناخات السياسية حتى تمر غيومها بسلام.
في اطار المكاشفات مع القارىء اعتقد ان من واجب الكاتب ان يمارس باستمرار عملية “النقد الذاتي” مع نفسه، ومع اصحاب “الكار” الذي ينتسب اليه، وهنا لا بدّ من ان اشير الى عدة ملاحظات: اولاها: ان الكتابة في الشأن العام مسألة “صعبة” ومرهقة، وتحتاج الى رؤية واستبصار، كما تحتاج الى “فطنة” وحكمة، فليس كل ما يعرف يكتب ويقال ولا كل ما يكتب ويقال حان وقته وحضر اصحابه، وثاني الملاحظات ان وظيفة الكاتب ليس “الجهر بالسوء” وانما توظيف الكلمة “الطيبة” لتغيير الواقع نحو الافضل، والموازنة بين مَضَنّتي “الستر والاشهار” فاذا احس بان “ظلما” وقع فالأولى ان يواجه على قدر استطاعته.
اما الملاحظة الثالثة فهي انه في غياب “الحرية” لا مجال ابدا للابداع، ومن حق الكاتب عندها على القارىء ان يحكم عليه وفق منسوب الحرية المتاحة، كما ان من واجب الكاتب ان يظل ملتزما بعهده مع القارىء وان لا يخضع فان استطاع ان يعبر عما يعتقده فليفعل، وان وجد الابواب امامه مسدودة في قضية ما فليكتب في موضوع اخر او ليصمت.
الملاحظة الرابعة ان ما يقال عن “انقطاع” الحوار بين الكتاب هو انطباع صحيح، لكنه انعكاس لانقطاع الحوار بين مختلف الفاعلين في المجال العام ومع ان الكاتب مطالب بان يتحاور مع ما يكتبه زملاؤه في المهنة من اراء ناهيك عما يصله من الناس والمجتمع الا ان حالة “الفقر” السياسي تمنع الكاتب من الاستطراد في التعليق على وجهات النظر الاخرى، سواء بحجة “ادبيات” وتقاليد استقرت رغم انها غير صحيحة، او بذريعة الاحساس “بالفوقية” وهي هنا سمة مكروهة.
الملاحظة الاخيرة هي ان الكاتب يهرب احيانا الى القضايا الدولية والاقليمية على حساب “الاولويات” المحلية والكتابة في الشأن الخارجي مفهومة احيانا نظرا “لوزن” الحدث او القضية، الا انها قد تكون هروبا من “الرقيب” واعتقد ان من واجب القارىء ان يوازن هنا بين “الهمّين” الداخلي والخارجي على ان تكون “اجندته” دائما في اطار “الهمّ الوطني” حتى لو تناول قضية من خارج الحدود.
على الهامش:
اشير الى هذه الملاحظات السريعة لسببين: احدهما موضوعي وهو “المحنة” التي انتهت اليها الصحافة الورقية تحديدا جرّاء ما تتعرض له من محاولات اضعاف وتضييق مالي، وما يعانيه العاملون فيها من احساس “بالخيبة” من تدخل الدولة لمساعدتهم باعتبار ان هذا الاعلام جزء من مؤسساتها وذراعا من اذرعتها، والسبب الآخر ذاتي، سواء في اطار “ابراء الذمة” او توضيح ما قد يلتبس احيانا على القارىء من “اجتهادات” او تساؤلات.. او حتى مواقف تنمّ عن “عتب” او استغراب لبعض ما نكتبه في زوايانا التي هي في الاصل “مجالس” نستقبل فيها ضيوفنا القراء.. او يستقبلوننا هم فيها، باعتبارهم اصحاب “المحل” ونحن ضيوف نطرق ابوابهم كل يوم.. فلهم الشكر والتقدير دائما.