البحث عن الدفء المفقود!
يقال، ان البرد يكشف أمراض الجسم، ويقال أنه سبب كل علة، بل إنه يكشف أيضا أمراض السيارات، فكثيرا ما تتعطل السيارة الـ «نص عُمر» عند أول شتوة، وكذا هي حال الروح والجسد الـ «نُص عُمر»!
ولأول شتوة حلاوتها، ومرارتها أيضا، فمع أول شتوة تنبعث رائحة لها فعل السحر، حين يختلط الرذاذ البكر مع ذرات التراب العطشى، فينتج «تزاوج» من نوع فريد، رائحة تذكرك برائحة عطر مثير، مضمخ بالذكريات الجميلة، والمُتعبة أيضا، وكذا هو الشتاء في إطلالته الأولى، يفتح جبهة من الجروح التي تظن أنها اندملت، وإذ هي مع الرذاذ الأول تنز بالمشاعر الدفينة!
البرد الذي يأتي مصاحبا للشتاء، يكشف أمراض القلب والروح والوجدان والمجتمع أيضا، ثمة حاجة لدفء القلب والجسم، والروح، ولكل دفؤه حسب «الاستطاعة» و «القدرة».. فبين دفء الفقير ودفء المترف بون شاسع، كما هو البون شاسع بين دفء قلب المحب العاشق، ودفء القلب متيبس العروق!
دفء المترفين خليط من شلالات «الديزل» التي تنهمر على خزانات وقود التدفئة المركزية، والبيوت المعزولة عن العواصف، والأثاث الفاخر، والسجاد الوبري الذي يكاد يحتضن قدمك متى ما دسته، اما دفء الفقير، فربما يكون «رُبع كاز» كناية عن ربع لتر بالكاد يملأ زجاجة معاد استخدامها، كي تستقر في قعر صوبة الكاز، ولا يتم إيقادها إلا حين تبدأ عظام الصغار بالطقطقة، أو حين تفشل الحرامات والأغطية المختلفة التي يلتف بها القوم في بعث الدم بالعروق، حينها لا بد من إشعال الصوبة مع ما تأتي به من روائح خانقة، لا نتحدث هنا عن صوبة الغاز أو الكهرباء، لأنها أصبحت خاصة بطبقة «الكريما» التي تعلو الطبقة الوسطى، وحتى صوبة الكاز فهي أيضا خاصة بالطبقة الدنيا من الطبقة الوسطى، أما ما دون ذلك من طبقات ومراتب، فأنت تتحدث عن أحذية قديمة، وأواني بلاستيك، وحطب، وربما «جفت» زيتون، يتم حرقها كلها في مواقد تنتهي بمداخن خارجية، تزكم روائحها أنوف الحي، في قرية ما، ولا يحتج أحد على أحد، بل يعذر بعضهم بعضا، لأنهم كلهم في البرد و»الحرائق» سواء!
دفء الأجساد أقل كلفة بكثير من دفء القلوب والأرواح، فمن أين يأتي هذا الدفء لقلب تيبست عروقه، فلا ينبض إلا بالتآمر والأحقاد والقتل والسلب والنهب؟ كيف لقلب خلا إلا من مشاعر الانتقام والسيطرة ومصادرة الحريات والحيوات أن يشعر بدفء قلب عاشق رفيف مرهف، تعزف دقاته ألحان الحب؟ الحب باتساعه، لمعشوقته، وناسه، وأهله، وشعبه، ألم يقولوا أن الثائر الكبير هو عاشق كبير؟ كيف لمن لم يستطع أن يعشق امرأة أن يعشق شعبا أو أمة؟ تخيلوا معي ذلك الثري العربي السفيه الذي دفع مبلغ 500 ألف دولار للجلوس لمدة 15 دقيقة مع ممثلة تدعى كريستين ستيوارت ذات الـ 23 سنة، أي نوع من البشر هذا الكائن، الباحث عن «دفْء» مفتعل بكلفة تبعث الدفء الحقيقي في قلوب شعب عربي كامل؟
تلك هي المعادلة السائدة حتى الآن، وقد بدأت عملية تغييرها، بربيع عربي أو شتاء إسلامي، لا فرق في التسميات ولا مُشاحة في المصطلح، فكلاهما يحمل دفئا خاصا للقلوب المتطلعة لدفء الحرية!