نــعــي مـثـقـف فـاضــل..!!
في زمن التيه تبحث الشعوب عن (المثقف) الفاضل ليرشدها إلى الصواب، أو لكي يدلها على الطريق الصحيح، لكنها -للأسف- تشعر بالخيبة حين تجد مثقفيها قد استقالوا من مهمتهم التنويرية، وتحولوا لقبائل تتوزع على هوامش السياسية، وتتناحر بحثا عن الغنائم والمكاسب.
فيما مضى كانت شهادة السجن كفيلة بإشهار ميلاد المثقف، ليس ميلاده فقط، بل تتويجه مناضلا وطنيا واعتماده عضوا مؤسسا في إحدى الروابط الثقافية او المؤسسات الوطنية، لكن ذلك الزمن مضى، وانتهت معه بعض تلك البطولات التي كانت تشكل في وعي المواطن حالة الاعتراف بالمثقف.. والدوران حول افكاره المطروحة.
ومنذ ذلك الحين لم يعد الكثير من المثقفين يبحثون عن لافتة أخرى يصدرون من خلالها أسماءهم، ويستمدون منها مشروعية حضورهم، فمن اليسار وأفكاره الأممية وانقلاباته القومية وشعارات الاشتراكية والثورية خرج علينا كثيرون، ومن علب الثقافة الغربية -حيث الأبناء المعجبون بالليبرالية والبرجماتية -خرج آخرون.. فيما ظل السؤال: أين المثقف الوطني الحقيقي؟.. وأين دوره ووظيفته..؟ وهل انتهينا من مركب النقص الثقافي وتابعية الالتجاء للآخر، لنقف عند حدود الذات الوطنية والفكر الأصيل للأمة… بعد كل هذه السنوات من الغربة والكبوة والضياع.
السؤال كان يتردد -وما يزال- في أذهان الكثير من المثقفين الذين شعروا بالإقصاء عن المؤسسات التي أقيمت على هامش الخندقة والتصنيف، أو أولئك الذين طاردتهم ميليشيات الثقافة التي حملت البندقية تارة.. وتارة أغصان الزيتون… أو الأخرى التي استرخت مرة تحت ظلال سيف السلطة واغراءتها ومرة اخرى على (مركب الثورة) العائم في محيط الفوضى تبعا لما يتجدد من شعارات أو مصالح أو تقاليع الارتباط بالسياسي ومكافآته التي توزع في كل اتجاه.
في عصر التحولات العربية وثوراتها التي تحالف (الجميع) لإجهاضها بأي ثمن ما زال السؤال عن المثقف مسكوتا عليه (أليس المثقف هو الطرف الوحيد الذي يسأل ويجيب؟)لكن الإجابة عليه لم تحسم بعد، فمن زمن الاسترقاق لأفكار اليسار التي ثبت خواؤها.. الى زمن الاسترقاق الثاني لأفكار الغالب وديمقراطيته الموعودة.. الى زمن الواقعية السياسية حيث المثقف ذراع السياسي وسيفه المصلت.. الى زمن الثورات التي كشفت بؤس المثقف وعطالته ظل المثقف في بلادنا يبحث عن هويته العائمة و مؤسسته الغائبة، عن خطابه الغامض، ودوره المهمش، ووظيفته التي تحولت من الإبداع والتنوير ومن الانصهار في هموم الأمة والمجتمع الى الابتعاد عنهما، أو الكفر -والعياذ بالله- بهما، أو التملق اليهما -لكيلا نقول المتاجرة بهما- للوصول الى المنصب او الشهرة او النفوذ.
لكن دعونا نتساءل: أين هو المثقف الاردني -دعك من العربي -اليوم، وما هي رسالته، وهل تحمل مسؤوليته وقام بدوره أم أن ثمة خنادق ما تزال تحفر، وخدمات بائسة ما تزال تقدم لنيل الرضا، وبضائع فاسدة ما تزال تروج، فيما يجد آخرون من المثقفين الإصلاء -وما أكثرهم- جدرانا من الصد، وصواعق لردع القامات من الحضور، ومعارك مفتعلة للطرد من المهادات الوطنية أو الثقافية.. باسم المواصفات الثقافية المطلوبة احيانا.. واحيانا باسم المصالح والقوى التي لا يعلو على صوتها صوت.
إن من يرصد حالتنا الثقافية، وما انتهت إليه مؤسساتنا الثقافية، يكاد يشعر بالأسف والمرارة جراء هذا الصراخ الذي لا يحمل أي معنى وهذا التذمر الذي لم يثمر -في يوم ما- فعلا ثقافيا جادا، وهذا الارتباك الذي اختصر خطابنا في المطالبات فقط: مطالبات الحرية ومنع الرقابة.. ومطالبات تنزيه المثقف من المساءلة.. وتعميده من الخطأ.. ومكافأته على التفرغ للابداع وتتويجه سلطانا بلا أي شروط ابداعية!!
ثمة مثقفون يدافعون عن الاستبداد والقمع تحت لافتة (الممانعة) وثمة آخرون يخوضون حربهم لشيطنة خصومهم، وثمة طبقة ثالثة منهم برعوا في التضليل والكذب,ورابعة انزلت عن المجتمع، وخامسة انحازت للسلطة مهما كان الفاعلون فيها، أم المثقف الفاضل الذي يعبر عن ضمير الناس فقد تراجع صوته أو تم تغييبه أو اضطر أن يبقى على الهامش وسط ضجيج يحاصره من كل اتجاه.
كان اللّه في عون المثقف الحقيقي (لا المزور)الذي آثر أن يخرج من أطر مؤسسات الثقافة التي لم تعترف به بعد.. ومن صالونات المثقفين الذين يبيعون كل شيء.. ما عدا الإبداع.. ومن وصفات الحظوة التي جردت أصحابها من آخر أوراق مشروعيتهم في الثقافة والنضال.!