أحكام باسم (اللـه) وأخرى باسم (الناس)..!!
حين ازور (إخواننا ) في دائرة الإفتاء العام : الشيخ الفاضل عبدالكريم الخصاونة والدكتور محمد الخلايلة وغيرهما من المفتين النجباء، ثم استمع لاجاباتهم عن اسئلة جمهور المتدينين وغيرهم من (المستفتين)، وحواراتهم مع المراجعين، وأرى كيف تتحول الدائرة الى (خلية نحل) عند البحث لجمع ادقّ الادلة الشرعية والآراء الفقهية لاصدار فتاوى صحيحة، اواستنباط أحكام تتوافق مع الدين والعصر.. أو الرد على قضية عامة تختلط فيها الفتوى مع الرأي، اقول في نفسي : ما يفعله هؤلاء الشيوخ الأعزّاء يستحق -فعلا- التقدير والاحتفاء، فهم يقفون على (خط) الدين، وهو دقيق وخطير، غايتهم الأولى رضا الله وخدمة الدين ثم ارضاء ضمائرهم بالعمل الدؤوب من اجل تطمين عباد الله المؤمنين على صحة عباداتهم ومعاملامتهم، وتصويب أخطائهم وتسديد ايمانهم . وهذه -بالطبع- مهمة جليلة لكنها صعبة ايضا.
وظيفة الكاتب لا تختلف ابدا عن وظيفة المفتي، فإذا كان الاول يصدر الأحكام بالنيابة عن الشرع ويوقعها باسم الله تعالى، فان الكاتب يمارس ذات الدور بخلاف انه يوقع باسم الناس، الذين هم ـ في الأصل ـ مناط التكليف والعمل، ثم انه يفتي في شؤون الدنيا لا في مسائل الدين.
لكن اذا كان ثمة شروط حددها الفقهاء لاعتبار المفتي جديرًا بالفتوى، وفي مقدمتها الاهلية العلمية حيث المعرفة بالقرآن الكريم، ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه وما اريد به وفيما انزل.. وبالحديث الشريف واللغة العربية والشعر واختلاف اهل الامصار.. وقلة الكلام اضافة للأهلية الدينية كما اجمل ذلك الامام الشافعي، فان من المفترض ان يصار الى تحديد ما يشبه هذه الشروط لاعتبار مَنْ يكتب كاتبا، او من يتصدر اعمدة الصحف أهلا لقيادة الرأي العام واجابة الناس عن تساؤلاتهم الدنيوية.
أهمية القضية تنبع من خطر الدور الذي يضطلع به المفتي فيما يتعلق بشؤون الدين، وكذلك الدور الذي ينهض إليه الكاتب فيما يتعلق بشؤون المجتمع والحياة، ومع ان الفتوى تجد ـ لحد ما ـ من يضبطها ويحصرها في دائرة مرجعيات لها اهليتها العلمية والدينية، وان وجدت من يتطفل عليها، الا ان الكتابة لا تجد مثل هذا الضبط، ولا يتورع كثيرون من الدخول عليها واليها، ممن يتصفون بالخفة أو الذبذبة أو قلة الأهلية العلمية والأخلاقية، لكي لا نقول المهنية؛ ما يستدعي التفكير جديا في وضع ما يشبه الميثاق المهني او تفعيله ان وجد ـ لتحقيق هذه الوظيفة او المسؤولية وحماية المجتمع من الدخلاء عليها، ودفع اصحابها الى الالتزام بقواعدها واصولها التي يبدو انها لا تخضع لاجتهادات الرأي بمقدار ما تخضع للأهواء والمزاجيات، ان لم نقل لمناخات مسمومة من الخوف والاغراءات والبحث عن المنافع الشخصية.. وغير ذلك من قلة الدربة واعتماد الانشائية وانعدام المسؤولية الاخلاقية والمهنية.
لكن تبقى قضية تشغلني في هذا الإطار وهي: قضية الحرية والاستقلالية، سواء للمفتي او الكاتب، أعرف تماما ان المفتي يستطيع ان ينتزع فضاء اوسع من الحرية استنادا الى التزامه الديني وحرصه على عدم العبث بالنصوص او تجاوزها وادراكه بان ما يصدره من فتوى مسألة خطيرة قد تشبه احيانا احكام الاعدام (دعك من مخافة الله المعتبرة اصلا) اما الكاتب فالحرية بالنسبة له كالماء، لا يستطيع اذا ما قطعت عنه ان يكتب حرفا واحدا، ولانه لا يملك مثل المفتي (سلطة الدين)لانتزاع الحرية فانه يقضي جلّ عمره وهو يبحث عنها، ومن المفارقات هنا ان حرية الفتوى في بلداننا(بعيدا عن السياسة) تبدو اوسع بكثير من حرية الاعلام، فهذه الأخيرة لم تصل لا في بلادنا – ولا في عالمنا العربي الكبير – الى الحد الذي يسمح للكاتب ان يعبّر بصراحة عما يؤمن به من افكار، أو أن يواجه بالانتقاد ما يراه من تجاوزات على صعيد السياسات العامة، وهذه الحقيقة يدركها القارئ ايضا.. وربما تسعفه في تفهم او قبول ما يكتب او ينشر حين لا يصل الى ما يتمناه من جرأة في معالجة الهم العام، فهو هنا لا يعدم المبرارت والاعتبارات التي تفرض على الكاتب، وتمنعه احيانا من الدخول في صميم قضايا مجتمعه وما يحدث فيه من سجالات ومخاضات ومشكلات، والاشكالية ان الجمهور لايعذرون المفتي ولا يقبلون منه اي خطأ ويطلبون منه ان يفتي لهم في كل شيء وان تتوافق فتواه مع رغباتهم (السياسية خاصة) ويرصدون كل كلمة يقولها ويحاسبونه عليها بمنتهى القسوة بعكس ما يفعلونه مع الكاتب الذي يتعاملون معه غالبا بدرجة أعلى من التساهل.
باختصار، امتحان الكاتب الذي يرصده الناس ويضعون له ما يستحقه من درجات، ويقررون سقوطه او نجاحه فيه، لا يختلف عن امتحان المفتي او السياسي او رجل العمل العام، لكن اصعب ما في امتحان الكاتب انه يتقدم له يوميا بمفرده، ويواجه من الاسئلة والقضايا ما يحتاج الى اكثر من الاستنباط والمعرفة والمعلومات، حيث الصدقية والمسؤولية والثقة التي ينتظرها القارىء منه.. وحيث الالتزام الذي يثبت من خلاله انه يعبّر عن موقف لا عن هوى، وعن حق الناس، لا عن توجيهات من هنا أو من هناك.
ومع الأسف، فان قليلين اجتازوا هذا الامتحان، واستحقوا بامتياز لدى القارئ الحصيف ـ لا غيره من الاستبانات ـ الدرجات الاولى.. ويبقى ان من حق الناس ان يقرروا من يجوز له ان يوقع بالنيابة عنهم، ومن لا يحق له ذلك.