من المفترض أن بعض الذين غزا الشيب شعر رؤوسهم قد
تذكروا حركة الطلاب أو «ثورتهم» في فرنسا عام 1968 ،التي لمع
خلالها شاب يهودي من أصل ألماني إسمه دانييل كوهين
بنديت، عندما شاهدوا شارع الـ»شانزيليزيه» في باريس مساء
أمس الأول وقبله وشاهدوا قوس النصر الذي هو تحفة فنية
بكل معنى الكلمة يتعرض لهجمات شبان يتطاير شرر الغضب
والحقد من عيونهم وأيضاً أنهم عندما سمعوا الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون وهو
يؤكد من بيونس آيريس في الأرجنتين أنه عائد «غداً» إلى بلاده قد تذكروا أن حتى الجنرال
شارل ديغول عندما إندلعت تلك الثورة الطلابية الفرنسية قبل نصف قرن ويزيد بالضبط
التي وصل شررها إلى أربع رياح الأرض قد حمل أمتعته وولىَّ هارباً إلى ألمانيا وهذا كان
فعله أيضاً كبار المسؤولين الفرنسيين في تلك الفترة التي أصبحت بعيدة.
لقد بادر بعض»المعلقين»الفرنسيين ومن بينهم ساركوزي نفسه إلى القول لا
بل»الإدعاء»بأن ثورة الشبان هذه التي إنفجرت كقنبلة هيدروجينية هي حركة عفوية
دافعها رفض رفع معدلات الضرائب وهذا بالنسبة لمن يتابعون حركة التاريخ غير صحيح
على الإطلاق والفرق بين هذه الإنتفاضة وإنتفاضة عام 1968 أن الذين كانوا وقفوا وراء تلك
الإنتفاضة هم القوى اليسارية أي بعض تيارات الحزب الشيوعي والترتوسكيين والماويين
والدليل أن عدداً من رموز الفكر الفرنسي في تلك الفترة مثل جان بول سارتر وسيمون دي
بوفوار قد إنضموا إليها وذلك في حين أن الذين وقفوا وراء هذه الإنتفاضة هم رموز
الحركة اليمينية المتطرفة وفي مقدمتهم مارين لوبان زعيمة الأحزاب الشعبوية في
فرنسا وفي كل الدول الأوروبية.
هناك في التاريخ ثورات وإنتفاضات كثيرة كانت دوافعها كلها المطالبة بالمساواة
وبالحقوق ومواجهة الإذلال وسيطرة الأقلية المتحكمة على الأكثرية وهذا كان بالنسبة لما
سمي ثورة العبيد في الإمبراطورية الرومانية بزعامة الثائر المتمرد في القرن الأول الميلادي
سبارتا كيوس وكان ثورة الزنوج التي كانت بدأت بمدينة البصرة على الخلفاء العباسيين
وأيضاً بالنسبة للمسيرة الماوية والثورة البلشفية والثورة الفيتنامية وربيع براغ الذي كان
في عام 1968 تمرداً على الهيمنة السوفياتية وانتفاضة بودابست المجرية عام 1956
وحقيقة كل الحركات التاريخية القديمة والمعاصرة.
في عام 1968 حيث جاءت ثورة الطلاب في فرنسا منعطفاً تاريخياً في دول الغرب كلها
وحيث كان سبقها اغتيال مارتن لوثركنغ وروبرت كندي وربيع براغ الآنف الذكر والثورة
الفيتنامية وقبلها مسيرة الألف ميل الصينية وحقيقة أن الذي أشعل نيران تلك الثورة
الطلابية هو اليسار المتطرف على طريقة ماوتسي تونغ وهوتشي منه وتروتسكي
وتشي غيفارا ولذلك فإنها قد أحدثت، رغم فشلها، تغييراً هائلاً في حياة المجتمع
الفرنسي وحياة المجتمعات الأوروبية بمعظمها كما وكان لها تأثير منهجي في أميركا
اللاتينية وفي دول العالم الثالث كلها ومن بينها العديد من الدول العربية وهنا لا بد من
الإشارة إلى أن كوفية (أبوعمار) كانت قد ظهرت على رؤوس الطلبة الفرنسيين الثائرين
الذين لا شك أنه كان بينهم عرب من دول المغرب العربي المملكة المغربية والجزائر
تحديداً.
والآن ورغم أن ماكرون لم ينظر إلى ما سيترتب على هذه الإنتفاضة ما كان ترتب على
إنتفاضة عام 1968 إنْ في فرنسا وإنْ في باقي الدول الأوروبية فإن هذا الإحتقان الذي
تعيشه الآن هذه الدول،سياسياًّ وإقتصادياً وأيضاً أخلاقياً، سوف ليبقي على هذه الجمرة
الفرنسية متقدمة وبخاصة وأن هناك مشكلة مستجدة في أوروبا كلها هي مشكلة
اللاجئين وعليه وهنا في المنطقة العربية فإنه على من هم في مواقع المسؤولية ألاّ
يضعوا رؤوسهم على وسائد من ريش النعام إذْ أن ما يعتبرونه مجرد رماد يخفي تحته
جمراً متقداً من المتوقع.. لا بل المؤكد أنه سيتحول وفي أي لحظة إلى ألسنة نيران..حارقة
و»ملعلعة»..واالله يستر