بماذا تعثّرنا؟!
من طموح وتوق إلى الحرية والتحرر والشعور بالكرامة والخلاص من ظلمات الاستبداد ووحشة الفساد، إلى بحور من الدماء والأشلاء وملايين المهجّرين ومحيطات الفوضى والتخبط؛ هي صورة “الربيع العربي” اليوم لدى المواطنين العرب! فبماذا تعثّرنا حتى انقلب الحلم إلى كابوس، والوعد إلى وعيد، والأمل إلى خوف؟!
بالضرورة، نحتاج إلى دراسات معمّقة لتحديد ما حدث خطأ في “الربيع العربي”، وفيما إذا كان ما نراه اليوم هو جزء من طبيعة الصيرورة التاريخية، كما حدث مع الثورات في تاريخ البشرية والحضارة الغربية، قبل أن تصل إلى مرفأ الأمان والاستقرار والطريق الصحيحة؛ أم أنّنا أمام “طريق خاصة” للمسار العربي، ما نزال نبحث عنها لتحديد المعالم التي تقودنا إلى التغيير والنهضة والحرية من جديد!
جوهر الخلل في أنّنا أردنا اختصار مآلات الثورة والحرية والديمقراطية في “صوت” يوضع في صندوق الاقتراع؛ وأقمنا مؤسسات-هياكل تمثيلية من دون بناء وعي جوهري وحقيقي بماهية هذه المؤسسات ووظائفها، وكذلك حال الثقافة التي تمثّل الدعامة الحقيقية لها، لكنها غائبة تماماً عن الواقع الراهن.
هذا الاختزال المخلّ الخطير لجوهر “الربيع العربي”، ضيّع الأهداف الحقيقية المتوخّاة منه. فالديمقراطية هي ثقافة ومنظومة متكاملة، لا تنفصل عن بعضها؛ وصندوق الاقتراع لا بد أن يؤدي إلى مؤسسات وسلطات تدرك تماماً طبيعة العقد الاجتماعي؛ والقيم السائدة تقوم على هيمنة القانون وتتأسس على مبدأ المواطنة. وهنالك عجلة اقتصادية تفرز مصالح مرتبطة بالتغيير المطلوب، وبناء نظام سياسي ديمقراطي جديد. وبين هذا وذاك، لا بد من فكّ الاشتباك بين الدين والسياسة بصورة توافقية وطنية عامة، تحدّ من الصراع الأيديولوجي-الهويّاتي الذي ساهم في الإطاحة بالحلم الديمقراطي العربي!
الديمقراطية بوصفها بناءً سياسياً لن تثبت وترسخ على أبنية اجتماعية وثقافية واقتصادية مناقضة لها، متعارضة مع مضمونها؛ ما يعني أنّنا عندما نفكّر في الربيع السياسي، فلا بد أن يتزاوج ذلك مع ربيع اقتصادي وثقافي، حتى تتغيّر وتتطوّر ثقافة المجتمع نفسه. وهو ما يتطلب بدوره، أيضاً، تحريكاً لعجلة الاقتصاد، لتحريك إدراك الطبقات الوسطى والفقيرة لمصالحها التي تتناقض مع دولة الاستبداد والفساد. وهذا لا يمكن أن يتم إذا كان الاقتصاد القائم هو “الاقتصاد الريعي”؛ أي أن الدولة تتحكّم بالموارد المالية وأغلب النشاطات الاقتصادية، أو يعتمد المواطن في حياته اليومية على الحكومة!
قراءة “الربيع العربي” من هذا المنظور متعدد الأبعاد، يمكن أن توفّر لنا مفتاحاً مهماً لتشريح ما يحدث في اللحظة الراهنة. ففي مصر، يتجاوز دور الجيش الجانب العسكري إلى المساهمة في نسبة كبيرة من الاقتصاد المصري، وهو يتحكم بمقاليد السلطة التي تسمح له بالتأثير وتبادل المصالح مع نخبة رجال الأعمال، ما يمنع أي تغيير سياسي يضرّ بمصالح هذه الطبقة السياسية.
وربما ذلك، أيضاً، يفسّر قدرة الدول التي تمتلك اقتصادات رعوية متينة قوية، على تجنّب موجات “الربيع العربي” إلى الآن، إذ إنّها وظّفت “البحبوحة” المالية بصورة كبيرة لإجهاض أي محاولات للتمرد والعصيان والثورة.
تتضافر مع هذه الأسباب عوامل أخرى لعبت دوراً كبيراً في إجهاض “الربيع”، مثل إشكالية العلاقة بين الدين والدولة، التي تمثّل التحدي الأهم فيما يتعلّق بسؤال الإسلام السياسي، ومفهوم الدولة. وهناك بالتأكيد أجندات إقليمية ودولية “تفرمل” المسار التحرري الشعبي العربي!
هل يعني ذلك نهاية المطاف ومقتل الحلم؟ بالتأكيد لا. لكنّها مرحلة من مراحل صيرورة تاريخية، ترتبط بإرادة الشعوب وإدراكها لمصادر التهديد والتحدي الحقيقية.