آخر من يعلم!
يتسرب من أروقة الحكومة حديثٌ عن تغييرات تطاول المسؤولين عن مؤسسات الإعلام الرسمي. لكن ما يؤخّرها إلى الآن -وفقاً للتسريبات- عدم وجود “بدائل” مقنعة!
التغيير المتوقّع يأتي بعد أن جرى تقييم لعمل هذه المؤسسات، أظهر ضعفاً شديداً في قدرة الإعلام الرسمي على التأثير والتواصل مع الرأي العام المحلي، فكان القرار هو استبدال القيادات المسؤولة عن هذه المؤسسات.
لكنْ، هل المشكلة فعلاً في المسؤولين عن الإعلام الرسمي؟! ألم تقم الحكومات المتتالية، خلال السنوات الماضية، بتغييرات متواصلة في قيادات هذا الإعلام؛ فلماذا لم يتغيّر واقع هذه المؤسسات، وبقي الإعلام يتراجع ويذوي حتى وصل إلى المرحلة الراهنة التي لا يجد فيها أحداً يصدّقه أو يقيم له وزناً؟! حتى إذا ما أراد أحد المسؤولين مخاطبة الرأي العام الأردني، فإنّه يلجأ إلى الإعلام الخاص أو حتى العربي، وربما العالمي!
جوهر معضلة “الإعلام الرسمي” لا يرتبط اليوم بالمسؤولين عن مؤسساته، ولا بمستوى كفاءتهم؛ إذ مرّت بالفعل على المؤسسات الإعلامية قامات لها خبرة كبيرة، مؤهلة للتدريس في معاهد وجامعات مرموقة، لكنّها لم تُحدث أي تغيير نوعي، ولم تُنقذ الإعلام من حالة الانهيار والتراجع المستمر.
ثمة أربعة أضلاع لمعضلة الإعلام الرسمي. لكن الضلع الأهم، وسبب البلاء الأول، يبدو في الحكومات نفسها؛ فهي التي تقتل أي تطوير للإعلام أو تحسين له، بفرضها الوصاية عليه مهنياً وسياسياً. فلا يستطيع الإعلامي أن يبدع، ولا المسؤول أن يطوّر مؤسسته، سواء بسبب تقييد الحريات الإعلامية في هذه المؤسسات، أو بسبب التدخلات المستمرة في البرامج لفرض ضيوف ووضع آخرين على القائمة السوداء، وشطب تقارير وأخبار، وحتى حجب المعلومات عن المؤسسات الإعلامية الرسمية، فتكون هي في العادة آخر من يعلم! أي بدلاً من أن يستقي منها المواطن الأخبار والمعلومات وتتمتع بالمصداقية، في متابعة الشأن المحلي على الأقل؛ تكون هذه المؤسسات في واد آخر عند وقوع أي حدث ساخن!
إذا كانت الحكومات يضيق صدرها وتنتفخ أوداجها ضد الحريات الإعلامية في المؤسسات الخاصة، ولا تتحمل نقداً ولا موضوعية، وتتهم كل من يقول رأياً مخالفاً بشتى التهم، فكيف نتوقع منها أن تتحمل سقفاً معقولاً في الإعلام الرسمي، أو تسمح بتقارير نقدية وبأخبار ذات مصداقية؟!
الضلع الثاني، وهو مرتبط بالأول، يتمثل في أنّ الحكومات تتعامل مع الإعلام الرسمي وكأنّه إعلام حكومة، لا إعلام دولة؛ إذ تريد منه نقل الرواية الحكومية فقط، والدفاع عن السياسات، وتفرض عليه الإطار السياسي الذي يتحرّك فيه. وهذا بحد ذاته قاتل لأي نوع من أنواع المهنية والمصداقية، فضلاً عن أنّ الأصل في الإعلام الرسمي أنّه إعلام الدولة والمواطنين، وليس فقط الحكومة؛ فالمعارضة لها حقّ فيه مثلها مثل الحكومة. وإذا لم تتغيّر هذه الرؤية، فإنّ واقع الإعلام لن يتغير!
الضلع الثالث يتمثّل في التمويل. إذ تبخل الحكومات على المؤسسات الرسمية بالحد الأدنى المطلوب لتطويرها وزيادة كفاءتها، بل إنّ الفضائية الأردنية مهدّدة فنيّاً بالاختفاء فجأة عن الأقمار الصناعية. وكم أحدث الضعف الفني المرتبط بقِدم الأجهزة إحراجاً كبيراً للدولة في التعامل مع أحداث مهمة!
لا نطالب بميزانية فضائيتي “العربية” و”الجزيرة”، بل بالحد الأدنى المعقول لإعلام محترم؛ وبتطوير الكوادر وتعزيز قدراتها وتأهيلها، بدلاً من أن تُنفق الأموال والهدايا في شراء ولاء كتّاب عرب مرتزقة معروفين، لا يمتلكون أي نوع من المصداقية!
أمّا الضلع الرابع، فيتمثل في عدم احترام المسؤولين للإعلام المحلي والإعلاميين عموماً. وهو ما سبّب هجرة كفاءات إعلامية كبيرة إلى الخارج، وتدهور حالة الإعلام المحلي.
تغيير واقع الإعلام يبدأ من الذهاب إلى المشكلات الجوهرية، لا إلى تغييرات شكلية سئمنا منها!