استغراب بوجهين!
بالرغم من مرور أسابيع طويلة على “الإجهاض القانوني” لتأسيس حزب “التجمع الحرّ”، فإنّ أيّاً من المسؤولين في الحكومة، أو في مراكز القرار الأخرى، لم يناقش القائمين على فكرة الحزب (تحت التأسيس)، بشأن ما يزعمونه عن أنّ هنالك “أيادي” عملت في الساعات الـ48 الأخيرة، بالضغط على مجموعة من المؤسسين لينسحبوا من الهيئة التأسيسية، ما أدّى إلى تهريب النصاب. بالطبع، هذه ليست نهاية المطاف. إذ بإمكان مؤسسي الحزب تكرار المحاولة باسم جديد؛ أو انتظار المدّة القانونية، ثم يتقدمون مرّة أخرى بأعداد تفوق كثيراً المطلوب، كي يقطعوا الطريق على هذه المحاولات الرسمية (المزعومة). وهم يستطيعون ذلك، لكنهم حرصوا على تجنب الطريقة التي عمدت إليها الكثير من الأحزاب المرخصة الحالية؛ من استدعاء الأقارب والأصدقاء، ودفع الأموال، من أجل الحصول على العدد المطلوب، بينما كان هدف القائمين على “التجمع الحر” هو اختيار الأعضاء المناسبين المؤهلين في الهيئة التأسيسية! في الحقيقة، يدهشني أمران فيما حدث مع “التجمع الحرّ”: الأول، هو مصدر التخوف الرسمي من مئات من الشباب الليبراليين السلميين، الذين يطرحون خطاباً يتعلق بالدولة المدنية والمواطنة والديمقراطية وتطوير الحياة السياسية والاقتصادية، ويعملون على بناء برامج منسوجة من غزل هذا الخطاب؛ فما هي مشكلة دوائر القرار المعنية مع هذه النخبة؟ ولماذا الحرص على إجهاض هذه التجربة السياسية والحزبية بصورة خاصة؟! أعتذر مسبقاً من السادة المسؤولين المعنيين إذا كان ردهم هو رواية وزارة الداخلية حول عدد الأعضاء؛ فهذه اللعبة التقليدية السخيفة لا تنطلي على طلبة الصفوف الابتدائية في مدارسنا، والتجاهل الرسمي لما حدث بعد إجهاض تأسيس الحزب يؤكّد أنّ المسألة “قرار سياسي”! لا تفسير لذلك إلاّ عدم رغبة المسؤولين في ولادة اتجاهات سياسية مستقلة، ذات نزوع إصلاحي واضح؛ فالمطلوب هو أن تبقى اللعبة السياسية تحت الوصاية الرسمية. وهو ما كانت المؤشرات الأولية لخطاب “التجمع الحرّ” وبياناته تعاكسه. فالتجمع أعلن مقاطعة الانتخابات النيابية ترشيحاً وانتخاباً، احتجاجاً على الصوت الواحد؛ وله مواقف نقدية من السياسات الحكومية، ما جعل الموقف الرسمي سلبياً منه قبل التأسيس! هذا يعني للمراقبين والرأي العام أنّ القصة ليست مرتبطة بالخوف من الإخوان المسلمين، ولا تقتصر على ما حدث مع “التجمع الحرّ”؛ بل هي مسألة مصداقية نوايا الإصلاح لدى مراكز القرار، أولاً وأخيراً، وعدم وجود رغبة حقيقية في تطوير الحياة السياسية والحزبية، وتدوير العجلة لتغيير الوضع السياسي الراهن. فما هو مطلوب، إصلاحات شكلية لتجميل المشهد، بدون إجراءات بنيوية حقيقية في إعادة توزيع السلطة، وتغيير قواعد اللعبة. وأي تيار أو حزب أو توجه، سواء كان ليبرالياً أم وطنياً أم إسلامياً، يحاول كسر هذا “الاحتكار الرسمي” للملعب السياسي، سيكون غير مرحّب به! أمّا المصدر الثاني لدهشتي من تجربة “التجمع الحرّ”، وليعذرني الأصدقاء في التجمع، فتتمثل في السلبية السافرة التي واجهوا بها عملية إجهاض تأسيس الحزب، بعد عمل مضنٍ، واجتماعات ولقاءات وحوارات (شاركت شخصياً في بعضها في البدايات)، استمرت على مدار العامين، ثم عندما يواجهون العقبة الرسمية الأولى يقفون! سيجيبني بعض الأصدقاء بأنّهم لم يستسلموا، لكنهم يدرسون خياراتهم. وهو جواب، مع الاحترام، غير مقنع؛ إذ كان من المفترض أن تكون قضية التسجيل معركة إعلامية وسياسية شرسة يخوضونها مع المسؤولين، ويطلعون الرأي العام على الوقائع، ويخلقون شرعية نضالية لتجربتهم. أمّا حالة “العتب” اللطيفة التي نسمعها منهم، فلن تكسر الثنائية الراهنة ما بين السلطة والإسلاميين، وربما تشي بأنّ التجربة ليست ناضجة بعد لولوج العمل الحزبي الحقيقي!