حيران يسأل عن «أُمّة» حائرة!
قال لي: من يقرأ تاريخ امتنا على امتداد سبعة عقود مضت يكتشف اننا انتقلنا من خيبة الى خيبة جديدة: خرجنا من عصر الاستعمار الاجنبي بعد ان قدمنا مئات الآلاف من الضحايا فدخلنا في عصر الاستعمار الوطني بكل ما فيه من انقلابات وفساد واستبداد، ثم واجهنا المحتل عسكريا فحصدنا “النكبة” و”النكسة” وحين تصورنا اننا انتصرنا وجدنا انفسنا امام “معاهدات” وتسويات مخجلة، قيل لنا ان ثمة صحوة اسلامية، ففوجئنا بأنها كانت “وهما” ثم سرعان ما ارتدت علينا “السهام” بذريعة مواجهة التطرف والارهاب، قيل لنا –ايضا- بأن عدونا داخلنا فتوجهنا الى اعلان الحرب على انفسنا، ودفعنا ثمنها على تخوم العراق ثلاث مرات وما يزال الباب مفتوحا لمزيد من الخسارات.
الآن جاءت “الثورات” فاستبشرنا “بولادة” الفجر العربي الجديد، لكننا “للأسف” لم نتحمل “نوره” فانقلبنا على ثوراتنا وتنكرنا للدماء التي سالت في ميادينها، وقررنا اشهار “وفاتها” حتى قبل ان تموت.
توقف صديقي الحائر عن الاستمرار في “مرافعته” الحماسية، وكأنه فوجىء بانصاتي، ثم استدرك قائلا: آسف، انا لا اريد ان استهين بأمتنا ولا ان اقلل من نضالاتها وحجم صمودها، ولكن ارجوك قل لي: لماذا امتنا وحدها دون الامم الاخرى ما تزال تعاني من الانقسامات والصراعات ومن الجهل والاستبداد؟ لماذا نهضت اليابان بعد الحرب العالمية الثانية وتقدمت الصين والهند رغم انهما لحقتا مصر في اطلاق مشروع النهضة؟ هل صحيح ان العالم “يتآمر” علينا؟ ولماذا نحن دون غيرنا؟ هل المشكلة فينا كعرب ومسلمين؟ وكيف تكون المشكلة فينا ونحن “خير أمة اخرت للناس” وبين ايدينا الكتاب الهادي؟ قل لي بالله عليك كيف يمكن ان نكون “مسلمين” ومتخلفين حضاريا في لحظة واحدة؟
كان الرجل ينتظر ان اردّ عليه لكنني لم افعل، فابتلع ريقه ثم قال: انظر ما حدث في عالمنا العربي في السنوات الثلاث المنصرمة، خذ مثلا مصر التي “فاجأت” العالم بثورتها، ثم فاجأتهم ايضا “بانقلاب” العسكر على “ثورتها”، هل كنا نتصور بان ينقلب الناس على “تضحياتهم” ويقبلون بعودة الاستبداد مرة اخرى؟ هل كنا نتوقع بأن الذين خرجوا للمطالبة بإسقاط حكم العسكر سيخرجون مرة اخرى “يدا واحدة” للدفاع عن عودة العسكر؟ ترى هل كانت الثورة حقيقية باسم الشعب المصري او انها كانت “صناعة” وضع عليها دمغته “الشعبية” فقط؟ ثم ماذا عن “الاسلاميين” ألم يخطئ الاخوان في الحكم؟ الم يخرج شيخ الازهر لمباركة الانقلاب؟ الم تشاهد زعيم التيار السلفي في صف “السيسي” الم تلحظ ان الهلباوي وابا الفتوح قد انحازا ضد الاخوان وهما ابنا الحركة؟ الم تطالع ما يمارسه الاعلام هناك من تحريض ضد المعارضين وكأن مصر انقسمت الى شعبين وان لم تقسم الى دولتين بعد.
خذ ايضا ما يحدث في سوريا، وخذ ما حدث في اليمن وليبيا والعراق، ستلاحظ ان “الصورة” لم تتغير، لا شيء سوى القتل والدمار، لا يوجد حكماء ولا عقلاء ولا قوة سياسية يمكن ان تقود الناس الى “التوافق” وبناء الدولة كما فعل حكماء اوروبا قبل قرون، الكل وقع في فخ “التسفل” السياسي والاخلاقي، والناس وحدهم يدفعون ثمن “الصراع” بالدم وضريبة “الاجنبي” الذي ظل يتفرج على المشهد حتى اذا دقت ساعة التدخل وضع “اصبعه” في “عيون” امتنا فأخرجها عن صوابها واصبحت لا ترى الا اصبعه فقط.
قل لي بالله عليك، كيف ستخرج امتنا بعد هذا “الهبوط”؟ وكيف ستتحرر شعوبنا وهي ما تزال تحتفي بأبطالها “الجلادين” وتحنّ لزمن “الاستبداد” وتنحني لمن يدفع اكثر..؟ كيف يكون “خلاصنا” باسم الدين ونحن لا نفهم الدين والبعض يوظفه في معادلات الصراع على “السلطة” ولا يأبه اذا ما سقط الآلاف من القتلى باسم الدين ايضا؟
قلت له: معك حق يا صديقي، ولكنك تتحدث من الزاوية التي تراها فقط، ولم تتأمل صورة “امتنا” من زواياها الاخرى، وانت تتحدث عن “مخاضات” لم تضع “مواليدها” بعد لا تسمع منها سوى الانين ولا تستشعر سوى الالم والدموع، وانت ترصد ثلاث سنوات هي في عمر الامم لا شيء، ولم تقرأ تاريخ الثورات والتحولات التي شهدتها امم اخرى ودفعت ثمنها ملايين من القتلى واستمرت لمئات السنوات، وانت تستعجل الاحداث باصدار الاحكام ولم تفهم حقيقة هذا الدين وطبيعة الامة التي تحمله… كل هذا يجعلني اصارحك بأنك تقرأ صفحات الامة من السطح ولم تتغلغل لترى ما يمور داخلها من غضب.. وما تخبئه للايام القادمة من مفاجآت.