عشـرون عاماً على أوسلو … «ما أبعد الدولة!»
وفرت الذكرى العشرون للتوقيع على اتفاق أوسلو، فرصة لكثير من القوى والفصائل والمراقبين، لوقفة مراجعة وتأمل وتقييم … سمعنا كلاماً مكرراً من سنوات سابقة، لم نقرأ مراجعة واحدة يُعتدُّ بها … شهدنا “فرسان” الاتفاق يتنصلون منه أو يعترفون بفشل “التجربة” من دون أن يرفّ لأي منهم جفنٌ واحد، فيشرع في تقديم “نقد ذاتي”، ويعلن انسحابه من المشهد السياسي، بل على العكس من ذلك، رأيناهم يتحدثون من مواقع الاستمساك بدورهم “القيادي” والتاريخي” والاستمرار به … لم يتغير شيء، سوى أن وجوههم في “البرامج الوثائقية” التي كانت تنبض بالحيوية والشباب، تبدو اليوم ملآ بالأخاديد والزوائد المترهلة، يعلوها ما تبقى من شعر أشيب، يعكس وطأة الشيخوخة وآثار السنين.
فشل أوسلو في تحقيق مبتغاه فلسطينياً … لا حرية ولا استقلال بعد مرور عشرين عاماً على احتفال حديقة الزهور في البيت الأبيض… لا دولة فلسطينية على الأرض (هناك مشروع دولة على الورق) … والدولة اليوم، باتت أبعد مما كانت عليه قبل عشرين عاماً، دع عنك العودة وتقرير المصير والحرية والاستقلال … لا حركة وطنية تنتظم كفاح الشعب الفلسطيني وتوحده وتعبر عنه، هناك سلطة لا سلطة لها، لا دور أو وظيفة لوجودها، خارج إطار التنسيق الأمني والقيام بأدوار الاحتلال بالوكالة … ضاعت منظمة التحرير ولم يبق منها سوى هياكل هرمة شائخة، وشلّ الانقسام أمل الشعب الفلسطيني وعطّل أحلامه.
بعد عشرين عاما، تضاعفت أعداد المستوطنين، اليوم تجاوزوا النصف مليون مستوطن موزعين على الضفة الغربية والقدس، وإسرائيل ماضية في إطلاق العنان لشهيتها الاستيطانية، والقدس لم تكن يوماً لقمة سائغة للتهويد و”الأسرلة” كما هي الآن، فيما جدار الفصل العنصري، يلتف حول حقوق الفلسطينيين وأرضهم ومزارعهم ومدارس أطفالهم، كما يلتف الثعبان القاتل حول عنق وجسد ضحيته.
بعد عشرين عاماً على أوسلو، صار الفلسطينيون أضعف من قبل، ليس بسبب انقسامهم فحسب، بل بسبب “تجويف” و”تجريف” حركتهم الوطنية المعاصرة، وإفراغها من طاقتها الكفاحية وشحناتها النضالية التي ألهمت العالم وأضاءت الشعل في كل العواصم … عاش الفلسطينيون “وهم” الدولة من دون أن يمتلكوا الدولة … عاشوا وهم “الاستقلال” فيما تبعيتهم للاحتلال، تتكرس يوماً إثر آخر … وضعوا “طلبات” الانخراط للفصائل والمنظمات الفدائية جانباً، واستبدلوها بملفات لحفظ “كمبيالات” البنوك وصوراً عن “الشيكات المرتجعة”، في مجتمع يغدو استهلاكياً واتكالياً للغاية، تصعب معه، حتى فكرة “الحلم” بانبعاث حركة وطنية بديلة أو استئناف المشروع الوطني الذي انطلق قبل نصف قرن تقريباً … كل ذلك جرى ويجري تحت شعار “بناء الدولة تحت جلد الاحتلال” وبناء الاقتصاد “المقاوم” ؟!
في المقابل، باتت إسرائيل بعد عشرين عاماً على التوقيع، أكثر قوة وغطرسة وعنصرية ونهماً … توسع على الأرض، داخل الجدار وخارجه، في القدس وأكنافها، استمساك برفض الدولة المستقلة، وجدل لا ينقطع عن أفضل السبل للخلاص من أكبر عدد من “السكان” والاحتفاظ بأوسع مساحة من الأرض … إسرائيل بعد عشرين عاماً على أوسلو، باتت أكثر يمينية وتطرفاً، دينياً وقومياً، أقل تسامحاً وأكثر استعداداً لشن العدوانات والحصارات والاعتقالات والتصفيات … لائحة شروطها ومطالبها اليوم، لم تكن لتخطر ببال أعتى عتاتها، ولم يكن ليحلم بها، لا بيريز ولا زينغر ولا سافير.
أما الجانب الأخطر في حكاية “أوسلو”، فتتجلى في المفارقة التالية: الاتفاق هبط كثمرة مرة لوهن منظمة التحرير ونفيها إلى تونس وأقاصي الأرض، وتعبيراً عن الرغبة في العودة إلى الوطن واستئناف الكفاح من أجل الحرية والاستقلال … والاتفاق نفسه، لم يفعل شيئاً سوى أنه ألحق المزيد من الوهن واليباس لجسم المنظمة والحركة والوطنية، ومزيداً من التشظي والانقسامات في صفوفها من جهة، وفيما بينها وبين الجناح الإسلامي في حركة التحرر الوطني الفلسطينية من جهة ثانية.
أما الوهن والتخاذل والتآمر والتواطؤ العربي، فلم تقلل من مفاعيله الخبيثة، رياح التغيير التي جرفت المنطقة في مختتم العام 2010، بل إن مكانة هذه القضية وقدرتها على تحريك الشوارع العربية، ودورها كرافعة في العمل القومي، وموقعها في صدارة الأوليات القوميات، تراجعت كثيراً حتى أننا صرنا بالكاد نسمع شعاراً ينتصر لفلسطين، ولو من باب “لزوم ما لا يلزم”.
بعد عشرين عاماً على أوسلو، تبدو الصورة قاتمة إلى حد كبير … المفاوضون أنفسهم، والمفاوضات ذاتها، وجداول الأعمال هي هي، لم يختلف شيء سوى تكاثر الشروط والمطالب الإسرائيلية وازديادها تعقيداً ومساساً بجوهر حقوق الفلسطينيين ومستقبل قضيتهم (يهودية الدولة)، وفي صميم ما تختزنه ذاكرتهم وما يحفظون في عقولهم وقلوبهم وضمائرهم … لم يختلف شيء سوى أننا ازددنا غرقاً في الأوهام وانصياعاً لما جنيناه على أنفسنا وشعبنا وقضيتنا.