الراقصون في المآتم
مكرهاً تجرّع الرئيس السوري بشار الأسد كأس الاعتراف بامتلاكه أسلحة كيماوية والموافقة على وضعها تحت الرقابة الدولية، توطئة لتدميرها والالتحاق بركب منع الانتشار… ولأصدقاء النظام والناطقين باسمه من حلفائه، لاسيما في الأردن ولبنان، أن يسموا ذلك نصراً مؤزّراً، فذلك شأنهم.
والمؤكد أن قبول النظام بالمبادرة الروسية، ما كان ممكناً لولا إحساسه بأن نصل السيف الأمريكي قد لامس العنق … المؤكد أيضاً أن النظام لم يكن ليقبل بـ”المُر” إلا لتفادي ما هو أكثر مرارةً منه، وفقاً للقول الدارج … بهذا السياق، وهذا السياق فقط، يمكن فهم المبادرة الروسية والترحيب السوري الفوري وغير المشروط بها.
لكن الذين امتهنوا الرقص في المآتم، وتحويل الهزائم “إذاعياً” إلى انتصارات ومكاسب، ما كان لهم أن يتناولوا الأمر على هذا النحو … عقليتهم، أو بالأحرى وظيفتهم، تملي عليهم تسمية التنازلات بالحكمة والدهاء، ووصف التراجع تقدماً والهزائم انتصارات … جعبة “معاييرهم” خاوية تماماً إلا من معيار واحد: بقاء النظام في الحكم، وبقاء “الأسد في عرينه” … وكل ما دون ذلك، تفاصيل لا قيمة لها في حساباتهم.
هو منطق قديم متجدد، حكم العقل الإيديولوجي العربي لسنوات وعقود … هزيمة حزيران بظلالها الكئيبة، لم تكن سوى تفصيل صغير، طالما أنها لم تنته بتخلي جمال عبد الناصر على معقده، وحملته جماهير قوى الشعب العامل، على التراجع عن “التنحي” … خراب العراق من مطلع ثمانينيات القرن الفائت وحتى مغرب شمس يوم السقوط المدوي لبغداد في 2003، لم يكن سوى تفصيل صغير، طالما أن الرئيس القائد، ما زال يحكم و”يقاوم”، بل وطالما ظل فيه عرقٌ ينبض … لقد قالوا شيئاً مماثلاً عندما طردت سوريا عبد الله أوجلان فيما كان الجيش التركي يتحضر لاجتياز الحدود مع سوريا في العام 1998 … وقالوا كلاماً شبيهاً عندما بدأ الجيش السوري انسحابا (لم نكن نتمناه على تلك الشاكلة) من لبنان إثر اغتيال الرئيس الحريري في العام 2005 … وهم مستعدون لترديد القول ذاته، مهما عظمت النكسات أو بلغت حدة التنازلات.
ليس للأسلحة الكيماوية قيمة استراتيجية في الحرب الدائرة في سوريا أو عليها … فاستخدامها ينعكس وبالاً على مستخدمها بأكثر مما يلحقه من عواقب وأضرار بالمُستهدف فيها … أما في ميادين الصراع السوري – الإسرائيلي، فهي أيضاً بلا قيمة ردعية أو استراتيجية، خصوصاً حين يكون الصراع مع دولة مدججة بالسلاح النووي ومحصنة بشبكة أمان دولية عصية على الاختراق … والنظام السوري يعرف أكثر من غيره، أن استخدام هذا السلاح في حرب محتملة مع إسرائيل، سيكون آخر قرار يصدر عنه … بهذا المعنى، تبدو الترسانة الكيماوية السورية وقد أصبحت عبئاً على النظام لا ذخراً له أو ذخيرة استراتيجية في حروبه متعددة الجبهات.
بهذا المعنى، لن يخسر النظام كثيراً إن هو تخلص منها، أو ألحق نفسه بمعاهدة منع انتشارها … لكن الخسارة هنا سياسية ومعنوية بامتياز، وهي ستضعف إلى حد كبير، صورة النظام التي يرسمها لنفسها، كقلعة وركيزة لمعسكر المقاومة والممانعة … وفي ظني أن إحساساً بالخيبة قد أصاب بعض حلفاء النظام من “معسكر المقاومة”، فإيران مثلاً، أدرجت قبولها بالمبادرة الروسية في باب: “نقبل بما يقبل السوريون”، على غرار “نقبل بما يقبل الفلسطينيون” عندما يتصل الأمر بالتسويات والتنازلات … وحزب الله من جانبه، يلوذ بصمت عميق، منذ جريمة الكيماوي في الغوطة، وما أعقبها من تداعيات، لكن التسريبات المنسوبة لقادته، تعطي إحساسا بالضيق والقلق الذي ينتابهم.
على أية حال، نحن من بين كثرة من المراقبين والمحللين، الذين ما كانوا ليقترحوا على النظام رفض المبادرة الروسية، فقد رحبنا بها ورحبنا بحرارة أشد بقبول النظام بها، على أمل أن يفتح ذلك الباب لتفادي ضربة عسكرية مؤلمة، لسوريا جيشاً وشعباً ودولة ومجتمعاً، والأهم على أن يفتح العرض الروسي والقبول السوري، الباب رحباً أمام عودة الدبلوماسية والحلول السياسية إلى صدارة المعالجات الإقليمية والدولية للأزمة السورية.
لكننا نميل لتسمية الأشياء بأسمائها … ومن هذا المنطلق، نقول إن النظام وحلفائه تراجعوا خطوة للوراء، وهذا مطلوب لتفادي الوقوع في الهاوية، والمطلوب الآن أن تتراجع واشنطن وحلفاؤها، خطوة للوراء أيضاً، حتى لا يبقى سيف التهديد بإشعال حرب جديدة، مسلطاً فوق رقاب الجميع.
إن قُدّر للمبادرة الروسية أن تجتاز حقول الألغام التي تُزرع في طريقها من قبل فرنسا ودول الحلف التركي – الخليجي (بعض الخليج)، فإن ذلك قد يشكل مدخلاً للبحث عن مخارج سياسية للاستعصاء السوري، لكن من السابق لأوانه التكهن بأن الحرب الأهلية وحروب الآخرين في سوريا وعليها، قد تضع أوزارها قريباً.