حيـن يصطدم مبتدأ الجملة بخبرها
يقولون أن لا حل عسكرياً للأزمة السورية، وأن “مائدة الحوار”، وليس خنادق القتال، هي المكان الأنسب لصياغة المخرج أو “الصفقة التاريخية” … لكنهم لا يفعلون شيئاً، أو على الأقل، لا يفعلون ما فيه الكفاية، لجعل الحل السياسي للأزمة، أمراً ممكناً، وبدل ذلك تراهم يتسابقون لحشد الأساطيل والطائرات والصواريخ المجنحة.
يجادلون بأنهم فعلوا ما بوسعهم لجعل الحل ممكناً، لكنهم يتغافلون عن حقيقة أن كل عروضهم المقدمة للحل، إنما تهدف إلى تحقيق أغراض أخرى، ليس من بينها حقن دماء السوريين ولا ضمان مستقبل آمن وكريم للأجيال القادمة منهم … إنهم يسعون في تغيير قواعد اللعبة وتوازناتها في المنطقة، عبر سورية وعلى حساب أبنائها، خدمة لمصالحهم ومصالحهم فقط.
يقولون إن الضربة العسكرية المنتظرة لسورية، إنما تهدف تسريع مسار الحل السياسي وإنعاش “جنيف 2”، وأنهم لهذا السبب جعلوها “محدودة” و”ضيقة” و”سريعة”، لا تهدف إسقاط النظام ولا تسعى في كسر توازنات القوى أو قلبها رأساً على عقب، ولفرط تشديدهم على هذه الأهداف، سألت مذيعة الـ”بي. بي. سي.” ضيفها الإيراني من عجبٍ: لماذا ترفضون الضربة وهي مصممة لتسريع الحل السياسي الذي تؤيدونه في العلن؟ … لا أعرف لماذا سيجد النظام، أو أي من حلفائه، نفسه مضطراً للجلوس إلى موائد التفاوض، بعد أن يكون السيف قد سبق العدل.
يقولون إنهم يريدون الحفاظ على وحدة سورية، دولة ومجتمعاً ومؤسسات، لكنهم يفعلون كل ما بوسعهم، من أجل تفتيت سورية، وتدمير مؤسسات الدولة فيها، وقصم ظهر الجيش السوري، وفي هذا السياق يجدر التأمل في “بنك الأهداف” المُعدّ للضربة العسكرية الأمريكية المنتظرة، والذي كان لإسرائيل اليد الطولى في إعداده، حتى نعرف أن الجيش أولاً، وقبل النظام، هو هدف الطائرات الحربية والصواريخ.
يقولون إنهم يخشون تصاعد نفوذ الجماعات الأصولية والمتطرفة من قاعدة ونصرة ودولة إسلامية، وغيرها من عشرات الأسماء للمسمى ذاته، ولكنها يغمضون الأعين عن حلفائهم الذين يمدون هذه التنظيمات، بالمال والسلاح والرجال والتسهيلات اللوجستية عبر حدودهم ومطاراتهم وموانئهم.
يقولون إن سورية تتحول إلى “أفغانستان ثانية” مع قدرة أكبر على جذب على “الإرهابيين” من أربع أرجاء الأرض، ولكنهم في مواجهة هذا التهديد، يصبون جام غضبهم وجبروتهم، على النظام والجيش ومؤسسات الدولة، التي وضعت في قلب دائرة الاستهداف العسكري الوشيك.
يقولون إنهم لا يريدون للحرب في سورية وعليها، أن تتسع إقليمياً، وأن تطال شراراتها دولاً صديقة أو حتى معادية … ولكنهم يفعلون كل ما بوسعهم، لـ “بلقنة” سورية والإقليم برمته … ويضعون أهدافاً لتحركاتهم تشتمل على تحجيم إيران و”هزيمتها بالرعب”، وحصار حزب الله وإخراجه من المعادلة السياسية، وقلب حكومة المالكي، وتذكيره صبح مساء، بأنه سيؤكل يوم أكل “الأسد الأبيض”.
يقولون إنهم يخشون انتقال أسلحة الدمار الشامل الكيماوية إلى أيدٍ غير مرغوب فيها، ويشيرون إلى حزب الله والحركات الجهادية السنيّة، لكنهم بقيامهم بتوجيه ضربة تأديبية للجيش السوري، سيسهلون مهمة هذه الأطراف، غير المرغوب فيها، في الحصول على هذا السلاح، الذي قد يصبح مشاعاً للجميع، إذا ما دبّت الفوضى في الديار السورية، أو تعرض النظام للانهيار أو الاهتزاز الشديد، أليس هذا ما حصل في ليبيا بعد سقوط نظام القذافي؟ … ألم تصبح مخزونات العقيد في أيدي القاعدة في مالي وشمال أفريقيا وصحراء سيناء وسوريا واليمن؟ … ألا تقول إسرائيل والولايات المتحدة، بأن “طريق الحرير الجديد” لتهريب السلاح والمسلحين، قد نشط مؤخراً، وصولاً إلى قطاع غزة؟ … أليس هذا هو أحد مبررات “الحرب على الأنفاق” والتي تلقى قبولاً وارتياحاً من قبل “الشركاء” في مؤتمر شرم الشيخ الذي أعقب الرصاص المصبوب على غزة، مختتم 2008 ومفتتح 2009؟
يقولون إنهم يذهبون إلى الجبهات ذوداً عن “أمنهم القومي” و”أمن حلفائهم”، لا أدري أية تهديدات يتعرض لها الأمن القومي الأمريكي أو “الأوروبي”، ومن أين يأتيهم التهديد؟ … أليس الإرهاب هو التهديد الأكبر لمصالح وأمن هؤلاء، من المسؤول عن انتعاشه، ومن يغذّيه ويموله ويسلحه؟ … ثم عن أي حلفاء يتحدثون؟ … هل لهم حليف يخشون عليه غير إسرائيل، ولماذا لم يستشيروا حلفاءهم من دول الجوار العربي لسورية، التي أجمعت على رفض التدخل العسكري، ولطالما استعجلت الحل السياسي؟ … هل ثمة غير إسرائيل من له مصلحة في إشاعة الفوضى في سورية وتدمير مقدرات الدولة والمجتمع فيها، ودفعها إلى أتون حرب أهليه، تفقدها أهليتها، لعقدين أو ثلاثة عقود قادمة؟
نقرأ خطاباً يناقض أوله آخره، ومبتدأه لا ينسجم مع خبره، ببساطة لأن دوافع الحرب والعدوان وأهدافهما، لا تكمن أبداً فيما يقال، بل في الأجندات والمصالح الخبيئة والخبيثة لأصحابها، والتي تبدأ عادة بإسرائيل ولا تنتهي بالنفط وطرق إمداده.