«معا من اجل اربد».. مدينة أكبر من حزب
سهلها وقمحه الحوراني وبقايا الدور عتيقة، جعلت «الحصن والصريح» أمكنة أولى، لكنها لم تجعل منها محطة قرار، فالسائر لا يقوى على الانتظار، والمدينة كذلك تواقة للغريب بدون تحفظ، سهلة برحة، جغرافيتها مروضة بما يكفي لكي تكشفها دون عناء، و»التل» هو جواز سفر المدينة للتاريخ والزمان الوطني والذي تعرض لنكبة عام 1984 حين قررت البلدية التوسع، وجرت حفريات سريعة للحصول على اكبر قدر من المعلومات باقصر وقت، آنذاك، اكتشف بان التل جزء من مدينة كانت محاطة بسور يحيط بالمدينة القديمة والجانب الغربي للتل، ويعود للعصر البرونزي المتوسط وأعيد بناؤه في المرحلة الأولى من العصر الحديدي.
ثمة تاريخ حضري تشكل عبر آلاف السنين، واربد كالعروس إن مالت شمالاً تلقى قبُلة من دمشق، وإن مالت غربا لثمتها يافا قبلة أخرى، وجنوبا تلقى سهلها الوفي، وفي أتون تلك الجغرافيا تشكلت المدينة بقصبتها وخرزاتها وتاريخها المشع بين ثنائيتين، الوطنية والقومية، لذلك حين يقول نبيل الكوفحي أنه سجل للانتخابات البلدية انطلاقا من مبادرة «معا من اجل اربد» فذلك كلام لا يشفع لقرار الحزب والجماعة وخيباتها، والتي لم يبق لها إلا أن تشكل محاكم تفتيش لتوجيه مصائر ابنائها، والكوفحي لم يكفر بل طبق الشرع والدين بحب الأوطان، أما من يشعرون بأن لا وطن لهم إلا بأمر المراقب، فتلك قسمتهم، وهو حين يبرُبمدينته فذلك لأنه صعب عليه أن يشيح الوجه عنها.
إربد التل والدار والمقهى والبلدية، فأهلها مارسوا العمل البلدي كأول بلدية عام 1883 وهي الأولى اردنيا في الزمن العثماني، وكان موقعها الحارة الفوقا وسط البلد،وكانت ملك الحاج محمد المغربي على طريق القلعة وقرب بئر قاسم حجازي والسرايا.وبلديتها كانت لافتة في عام 2002 بأن سجلت ميزانية خالية من العجز، دون ان يدخلها القطاع الخاص أو خبراء البنك الدولي والديجتليون، بل حققت كل توسع ونجاح بخبرة ابنائها.
اربد كانت وستظل سامقة، تاريخها مشرف، رجالها قادة، ويكفيها كايد المفلح ووصفي التل وفضل الدلقموني ومحمد الحمود الخصاونة وقاسم حجازي وكامل العجلوني والأمثلة لا تحصى، واربد الجامعة والمقهى، وابناء القرى الذين التحقوا بثانويتها الأولى قبل أن يكون وجوب تمام الوعي بعد الإعدادية بأن تسوقهم الأقدار نحو مكتب عنبر ثم المدرسة التجهيزية في دمشق.
ذوقان الهنداوي وعبد الرؤوف الروابده وعلي محافظة وصلاح ابوزيد وفهد الفانك وحسن خريس وصادق الشرع وآخرون من خيرة رجال الوطن، هذا الجيل درسه معلمون كبار أمثال واصف الصليبي ومحمد المغربي وعلي سيدو الكردي ومحمود سيف الدين الإيراني واحمد التل ومصطفى الكيلاني والقائمة تطول، لكن التاريخ ينعطف إلى مقهى الكمال الذي أسس عام 1941 كانت منتدى منعقدا بشكل دائم ومنه خرجت الكثير من المظاهرات ووزعت المناشير ضد حلف بغداد، وفيه فاوض وفد الجامعة العربية قادة فصائل فلسطينية في احداث أيلول.
أما إربد الجامعة، فكثر من الجيل الناهض في السياسة والإعلام اليوم له سهم من اليرموك، هناك كان الوعي وكانت السياسة وكان كمال ابو ديب يتحدث عن البنيوية والاستشراق، يومذاك كان الطلبة بين لحاف المعرفة والسياسة، استفاد الجميع من التجربة، لكن اليسار تكسرت اقلامه مبكراً، ثم ذوت الجامعة ودخلتها العصبيات بدل الفكر السياسي، وصار الرؤساء يتسابقون كما كل الجامعات بمن يبني بوابة أكبر.
اربد عرار، الصوت المجلل ضد الفقر والفساد، واربد وصفي الحب والقمح والبطولة، واربد بسفوحها وسهولها لا تشبهها إلا سفوح شيحان، تربة حمراء وبعض الحجارة البركانية السوداء، وهذا هو معنى «الربده»، فهل يكون صدفة أن يقول عرار:
يا اردنيات إن أوتيت مغتربا
فانسجنها بابي أنت اكفاني
وقلن للصحب واروا بعض أعظمه
في تل اربد ابو سفح شيحان
اربد عليك السلام، ساعة غروب عتيق في شارع بغداد، وساعة ضحى كانت تُمثل فيها تمثيلية عن جان دارك في مدرسة راهبات الوردية في البارحة مطلع الخمسينيات، هناك كان انتظار الصبايا الحسان من قبل الشباب، ثم الهبوط إلى شارع الهاشمي حيث القلب النابض لمدينة كلها خير احتضنت الكردي والشامي والحجازي والصفدي والعكاوي والصيداوي، وكأنها ميناء جاف في سهل حوران.
سلام على الراحل قاسم عبد الرحيم الغزاوي وهو مدير في مدرسة حسن كامل الصباح في «ظهر التل»، ثم في مدرسة أبي عبيدة، والفتية يتحدون قسوته، ليفاجئوا حين انتقل بأن من خلفه في الإدارة وهو عقيل الأنسي أكثر قسوة وشدة.
إنه زمان نقرأه في سيرة معلمينا الأكثر نزاهة وكبرياءً في مسيرة الوطن… يوم ذاك كان المعلم أكثر فقرا من اليوم، لكنه أكثر أنفة وكرامة وهيبة وكان أبا للجميع.
Mohannad974@yahoo.com