الكرك في الزمان الأول وأبو باعث
كأربد أو السلط وغيرهما من مدننا العزيزة، ظلت الكرك وفية لروحها ورجالها المخلصين، لكنها اليوم بكل ما أوتيت من جهد أن تقاوم الموت، وبرغم كل هذا، ثمة جُملة من الذاكرات الجمعية التي تظل حاضرة، وهي ممتدة بين أزمنة طويلة وأمكنة لا زال بعضها حياً، ومنتشرة في فضاء المدينة وأسواقها، من السوق الفوقاني وتفرعاً إلى شارع الخضر حيث مقام سيدنا الخضر ونزولاً من الجامع الحميدي وصولا إلى الجامع العمري، أما بطولات الشباب في عقد الثمانينيات فكانت تتمركز أمام سوبرماركت صخر الحباشنة لمقابلة الجميلات الخارجات من مدرسة أروى بنت عبد المطلب. وفي مذكرات د.عبد السلام المجالي وذاكرة د. كامل العجلوني القصيرة عن أيام دراسته في الكرك الكثير من السرد الممتع والشيق أيضا.
مطعم العشي وعكاش كانا من أقدم الأمكنة التي نُحب ارتيادها، فيه «مرطبانات» السكر العتيق، وصور محمد نجيب والملك طلال التي تزين المكان، وفي مقابله كان هناك محل زعل الكركي للأسمنت حيث دوما تسمع «الغلاط» وهو مرحلة أولى في الحوار والنقاش بين الرجال، وقديما كان في الزاوية العليا مقابل المحكمة مقهى المنشية وقد زال اليوم، أما ملحمة «إعيال عتيق» فهي أشبه بمنتدى منعقد بمن حضر دائماً.
لم يبق الكثير اليوم من تراث المدينة الحي، بعض الدور العتيقة دار دليوان باشا ودار حسين باشا الطراونه، كانت من معالم المدينة، وهي شاهد على انقسام المجتمع بين تكتلين «الشراقا والغرابا» والتكتلات والسياسة في الكرك مثل أكل الخبز.
كان أبو لحاف حمود البريشي الرجل المجذوب جزءا من معالم السوق، فجأة إذا لا يعجبه أحد من المارة في السوق يقوم باللحاق به وضربه بالعصا، ولا نعرف كيف كان يستفز أو يهدأ، وذات يوم صدح قول الشاعر حامد المبيضين في أمسية شعرية بجامعة مؤتة قائلا:
لحافك الرث يا عماه أشجاني
ومشهد البرد في الأسواق أبكاني
ما خنت أرضا ولا أيدت منقصة
ولكن ترفع الظلم من فرن لدكاني
مشاهد تتوالى من ذاكرة المدينة الحية، كنا نرى الراحل أسامة المفتى ونحس أن للمكان حارس عتيق، وكان الآباء يتحدثون عن رجال المدينة الكبار عطالله بيك السحيمات ودليوان وعمران المعايطة وحسين الطراونه وعود القسوس وفلاح المدادحة وكريم بيك الذنيبات وسابا العكشه وآخرين كبارا كثرا، كانوا يشكلون صوت المدينة وحضورها المشع في الحركة الوطنية.
كانت فرصة الصيف ملائمة لنا لزيارة المدينة بعد حجز مقعد في سيارة 190، غالبا ما كان يوضع الطفل بين الباب وسايق المرسيدس، ولاحقا دخلت الباصات وفق نظام التعاونيات، ومثّل الانتقال من المرسيدس 190 إلى «الكوستر» حدثا كبيراً، مما زاد في إمكانية الزيارة للمدينة وغالبا مع الوالدة، إذا كان الآباء عادة لا يتسع وقتهم لنا، وغدت زيارة المؤسسة العسكرية يوم الجامعة من أجمل الطقوس، وكان الذهاب لمحمص السيد لعمل «قلية الحمص» لتخزينها للشتاء في غاية الضرورة للاستعانة بها ليل الشتاء الممل، وكنا أحيانا نحمل بزر البطيخ الأسود الكبير حجمه لتحميصه، وقد انقرض اليوم. وإذا ما فقدنا الوالده فكان يقيننا أن سنجدها في محل البوشي أو عند دكان طبازة أو شعث، فتجار الخليل وغزة سادوا ومادوا، بعدما اخرجوا الشوام من السوق.
لم تتعود الكرك الهجر أو الجفاء، ظلت أمكنتها حية، ناطقة وكذلك حضور رجالها كبار، كان مدرستها العثمانية تمثل «الكابيتل» والعقل الكبير، رجال كثر مروا من هناك، ومظاهرات سياسية عبرت عن الرفض انطلقت منها، ولكننا لم نجد لنا بها مقعدا أواخر الثمانينيات، فانتقلنا إلى مدرسة قريبة في ضاحية المرج، وهي مدرسة الأمير حسن الثانوية، كان صيتها قد ذاع، بفضل رجل واحد شديد الهيبة، لا يرحم الطلبة، ولا المعلمين، كان طيفه ومجرد ورود اسمه، كافيا لانضباط المدرسة بأعلى درجات الدقة، لا بل كان مرعبا بكل المقاييس، لكنه إذا ما ابتسم، تكتشف أي أب تخفي تلك القسوة، وقليلاً ما يبتسم.
أبو باعث محمد عقلة الرواشده ، ليس مجرد مدير، فهو لم يمر على مدارس الليبراليين ولا نوادي الساسة في عمان ولا جوائز التربية العربية، بل وعى العروبة والقومية والوطنية وحاول فرض هيبة المعلم والمدير والحفاظ على الطلبة، عرفه الناس وأيقنوا بجديته وكذلك احترمه طلاب مدرسة الحسن ومن هم في جيلهم، دون أن تقول الحكومة لهم ذلك، لكن ذلك حدث قبل معارك هيبة الدولة عند كل امتحان ثانوية؟؟.
Mohannad974@yahoo.com