معايير اجتماعية متحركة!
عانى المجتمع العربي خلال العقود الاخيرة التي تسارعت فيها الاحداث بحيث يصعب رصدها أو اللحاق بها من شحة في الدراسات الاجتماعية والنفسية، بحيث تحول الاغتراب الى ظاهرة وانكفأ الافراد داخل صدفاتهم كالسلاحف.
ومن أهم المتغيرات في هذا السياق منظومة القيم والمعايير سواء كانت اجتماعية أو اخلاقية، ولو اخذنا مثالاً واحداً عن الشخص المرغوب فيه وفقاً لمعايير سائدة لوجدنا أن مكانة التكنوقراط لم تكن بسبب وعي الناس بمهن كالطب والهندسة، بل لأن تلك المهن هي المطلوبة في مجتمعات نامية، محلياً أو للتعاقد مع دول أخرى في الخارج.
وفي مصر مثلاً كانت صورة الضابط بعد ثورة يوليو هي النموذج لأن من صاغ هذه الصورة هم عدد من العسكريين الذين غيروا نظام الحكم، وبالتالي تولوا ادارة معظم مرافق الدولة، لكن المشهد أصبح معكوساً بعد هزيمة 1967، وكانت النكات السياسية تنصب في أغلبها على الضباط، وحين جاءت موجة الحداثة وما بعدها في عالم التكنولوجيا أصبح النموذج ذا علاقة بهذا المجال، ولم تعد كليات الهندسة والطب هي قبلة الآباء الحالمين بمستقبل آمن لابنائهم، لكن العلوم الانسانية رغم أهميتها تراجعت، وهناك جامعات أغلقت أبواب كليات مثل الانثربولوجيا وعلم النفس أو علم الاجتماع، رغم أن أحد رؤساء الولايات المتحدة حذر بلاده من هذا الخلل وقال إن إهمال الانسانيات لصالح التكنولوجيا يجعل الامريكي يحلق بجناح واحد وبالتالي يفقد توازنه.
منظومة المعايير متحركة، وتستجيب في حركتها لبوصلة عملية وواقعية تضع الحاجة قبل القيمة، لهذا أصبحت مجتمعات محافظة تتسامح مع مهن وممارسات كانت شبه محظورة، وهنا يلعب الاقتصاد الدور الحاسم في هذه المرونة الاجتماعية والتساهل الاخلاقي، وقد سبقنا أسلافنا الى القول بأن صاحب الحاجة أرعن، أو ان الحاجة هي أم الاختراعات كلها، والاختراعات ليست دائماً علمية أو في مجال التكنولوجيا انها أيضاً في المفاهيم والمعايير وما كان يتصور الناس أنه عقد اجتماعي وأخلاقي لا يُمّس.
لهذا فان النموذج الجاذب في المجتمعات مُتغيّر، فهو عسكري في مرحلة ما وتكنوقراطي في مرحلة أخرى، ولا ندري ما الذي سيؤول اليه هذا النموذج في الأيام القادمة.
ان ندرة الدراسات الميدانية الراصدة لهذا التحول في منظومة المعايير تثير اضطراباً اجتماعياً وآخر نفسياً لدى مجتمعات تعيش حالات من ردود الأفعال، وتتحرك وفقاً لمؤثرات من رياح وعواصف تأتي من خارجها!