حكايات لا يعرفها أحد
هذا هو العام الخامس عشر لحملة «الدستور»الإنسانية التي تأتي تحت اسم «حكايات لايعرفها أحد» والحملة جابت المدن والقرى والبوادي والمخيمات، ولم تنجح لولا دعم الخيرين، الذين ساعدوا آلاف العائلات، ولبّوا استغاثة الايتام والفقراء والمساكين والمظلومين والمرضى.
استعدادا لشهر رمضان، الذي يتم فيه نشر الحالات الانسانية بعد التوثق منها بشكل يومي، زرنا عائلات كثيرة، وكان لافتا للانتباه حد الفجيعة ما رأيناه في «الدستور» من تغييرات عميقة ومستجدة في البلد، وعام بعد عام تتدهور احوال الطبقة الفقيرة، وتصبح مشاكلها معقدة ومركبة، وكأنك تراها لأول مرة، فتعود وقد شربت كأسهم المر!.
أليس غريبا جدا أن نجد طفلات يتيمات ينوي مالك البيت طردهن منه، ويقطع الكهرباء عنهن، من اجل اخراج العائلة وتأجير البيت لسوريين يدفعون اكثر، كم تبقى هنا من الرحمة ومخافة الله، وهل المؤجر هنا كائن انساني لديه دين وقلب وضمير ووجدان ومروءة؟!.
أليس غريبا أن تعيش أم أيتام في غرفتين منفصلتين عند والدتها، والأم تصرّ بطريقة غريبة ان تدفع ابنتها وايتامها ايجار البيت، فيما لا يسأل لا..عم ولا..خال عن الايتام الصغار، بذريعة قسوة الحياة وانشغالهم بأولادهم، بل ان الشقيق يريد الغرفتين حتى يتزوج، ولتذهب شقيقته وايتامها الى الشارع، معتقدا ان البركة ستحل عليه اذا يتزوج بهذه الطريقة؟!.
هناك تحولات اجتماعية، والفقر بات يأتي بممارسات قبيحة لم تكن مألوفة، واحدى العائلات التي زرناها عائلة تعيش فيها الأم وابنتها اليتيمة والمعوّقة حركيا وليس ذهنيا، وكل ما تحصل عليه العائلة من الجهات الخيرية لا يكفي ايجار البيت، فتتأمل حال اليتيمة المعوّقة، وهي لا تجد ثمن قميص تلبسه، وكل معونتها لاتكفي لبعض احتياجاتها الصحية!.
الواضح ان كل الكلف المالية لإطفاء الفقر واليتم لم تعد كافية ابدا، وربما تدفع العائلات الفقيرة الى الفساد والانحراف والانهيار.
تكتشف من جولة اولية على ثمانية بيوت، ستليها جولات اخرى، وسيتم نشرها في «الدستور»خلال الشهر الكريم، ان هناك ظواهر اجتماعية تزيد من حدة الفقر، فالعائلات الفقيرة تنجب كثيرا، وكأنها تنتحر هنا، وفي بيوت كثيرة آباء يهيمون على وجوههم تاركين بيوتهم ومسؤولياتهم، وهناك بيوت انجبت طفلا من ذوي الاحتياجات الخاصة، فلم تتوقف ولم ينصحها احد، بل انجبت غيره وبذات المشكلة، فأين التوجية والوعي في هكذا حالات؟!.
تزويج البنات بشكل مبكر لفقراء مسحوقين من ذات الطينة تحت عنوان»الستر والستيرة « لم يفلح لا بالستر ولا بالستيرة، إذ أعادوا انتاج مشكلة ذويهم، فقر مدقع وبطالة، واطفال بلا مستقبل، ولعلك تسأل عن سر هذا الرابط بين الفقر والجهل، وعدم قدرتنا على الفصل بينهما قدر الإمكان، وعجزنا حتى اليوم عن تأهيل الفقراء بدلا من ادامة الفقر.
تدخل بيوتا لا تليق بحياة الأدميين، وبعضها تتقافز فيه الجرذان، وأي خروج من هذه الكهوف الاسمنتية ، يعني التشرد في الشوارع، او البحث عن كهوف بإيجارات مرتفعة، وتلحظ ان المؤجرين لم يعد يهمهم سوى المال، فلا شفقة في وجه يتيم، او يتيمة، وهذه عبادة للمال، اذ كم تبقى في قلوبنا من عطف، ولعل المفارقة اننا كلما تخلينا عن انسانيتنا تحت وطأة الطمع، عدنا الى الخلف، ولم نكسب شيئا، لا دنيا ولا آخرة!.
«حكايات لايعرفها احد» في عامها الخامس عشر تأخذكم الى بيوت الفقر والمرض واليتم، وهي معاناة بحق ان تدخل هذه البيوت، فيطبع الأنين بصمته على قلبك، وتسأل نفسك، عن سر التحول البارز، فقد كنا نتعب سابقا حتى نقنع العائلة بتصويرها واشهارها في الصحيفة، لكنك اليوم تكتشف ان الناس تخلت عن معيار التردد والحياء، تحت وطأة الفقر، وهذا التخلي يقود الى تراجعات اخرى على ذات المعيار ستأخذنا الى خراب اجتماعي .
أيها المارون قرب البوابات المنسية، فكروا قليلا بما خلفها من حكايات.