النشاشيبي كما عرفته
رحل الكاتب العربي والفلسطيني المخضرم ناصر الدين النشاشيبي، وقد حظي بما لم يحظ به غيره، اذ ان الصلاة عليه كانت في المسجد الاقصى يوم الجمعة،اي قبل يومين،وحظي ايضاً،بمكان طاهر في القدس،حيث تمت مواراة جثمانه.
عرفته منذ عام 1991،واول لقاء لي به كان في فندق الاردن، ويومها ذهب الى مكتبة الفندق ليشتري نسخاً من كتبه ويعود ليهديني اياها، والقلم المقدسي؛ كان وفيا للقدس وللمسجد الاقصى، وكل كتبه الخمسين، تتناول قضية القدس،بشكل او بآخر.
لايوجد قلم عربي تناول قضية القدس،مثل ناصر الدين النشاشيبي،وقد زرته لاحقا،مرات ومرات، في بيته في القدس وبيته في لندن، وفي ذاك البيت قرب المسجد الاقصى، في حي الشيخ جراح، تجلس اليه ساعات ليروي لك اسرار المدينة،واحوالها، وعائلاتها، ومافيها من قصص، وفخره بمقدسيته تراه في كل حرف، وهو الذي عاد الى المدينة المحتلة مطلع الثمانينات.
كان رئيساً للتشريفات في الديوان الملكي في عهد الملك عبدالله الاول، وكان قريباً من الملك الحسين، والتقى ايضا الملك عبدالله الثاني، وقابل في حياته الصحفية رؤساء امريكيين، ورؤساء دول، ومهنته اخذته الى رئاسة تحرير صحيفة الجمهورية المصرية في عهد عبدالناصر، وهو امر لافت، في مصر التي اعتبرته شامياً ينافس المصريين وعلى رأسهم هيكل في عقر دار الصحافة المصرية.
ذات مساء في بيته في القدس اخرج ملفات كان قد خبأها بعناية،وفيها عشرات الوثائق السياسية الحساسة،وبدأت بنهم بقراءتها في تلك الليلة،واحداها كانت دعوة سرية من تيدي كوليك رئيس بلدية القدس المحتلة،والدعوة موجهة الى الملك الحسين من اجل زيارة المسجد الاقصى،عبر هبوط طائرة الملك الهليوكبتر في ساحة الحرم القدسي،ثم الصلاة في المسجد،والملك الراحل رفض الدعوة انذاك.
خاض معارك صحفية لها بداية وليس لها نهاية،وكان على خلاف مع السلطة الفلسطينية،التي كان تعتبره انذاك رجل الاردن في القدس،ومعاركه ايضاً امتدت الى الصحافة العربية والسياسيين العرب،ومن ابرز كتبه كتابه الذي عنوانه «حضرة الزملاء المحترمين» وفيه مروياته عن الصحافيين العرب واسرارهم،وهي مرويات مدوية جلبت له الغضب،لانها كشفت فضائح بعضهم.
في بيته في القدس ايضا،المطل على المسجد الاقصى،كان يحتفظ ببوابات بيوت عائلته القديمة،واذ سألته عن السر قال ان لهذه البوابات حكايات لاتنسى،وهي جزء من مدينة القدس،وتاريخها،وكان يقول لي دوما..اجعل بعض حبرك للقدس،وبدون هذا الجانب فأن قلمك سيكون غائب الضمير.
قلمه رشيق جداً،وفيه مزج بين الهوية اللبنانية والمصرية،عبر اللغة الجميلة التي تجمع بين الرصانة،والمفردة الخفيفة على القلب،وكتبه ومقالاته حفلت بمروياته ايضاً عن اللقاءات مع زعماء عرب وزعماء غربيين،وقيمتها من هذه الناحية توثيقية،لما فيها من معلومات مهمة جداً.
رحل النشاشيبي،ولو اراد المرء لما كفاه كتاب كامل لرواية مايعرفه عن الرجل،والقدس التي تعلق بها،لم تتركه ليرحل في المهاجر،اصرّت ان تضمه الى صدرها في ساعاته الاخيرة،وان ترد له وقفات عزه،بذات الطريقة.
كان عروبيا وهو ايضا مقدسي القلب،وفلسطيني الوجدان،ووجدانه كان محباً جدا للاردن،الذي له موقعه الاثير عنده،وعند عموم المقدسيين،وهذه رابطة تاريخية معنوية معروفة وملموسة بين المقدسيين والقدس،من جهة والاردن وعائلاته من جهة اخرى،خصوصا،ان القدس وعبر مئات السنين خبرت الاردنيين،بعد كل حج لتقديس حجهم،وخلال الايام العادية.
احب القدس،فأحبته،والمدن السماوية،لاتخذل من يخدمها ابداً.
maher@addustour.com.jo