فورين بوليسي: القوة العظمى العالمية التالية ليست هي ما تعتقد.. نحن مقدمون على عالم لم نعهده من قبل
وكالة الناس – نشرت مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) مقالا يتناول قيادة العالم الحديث سواء كانت أحادية أم ثنائية أم متعددة، والنظام أو النظم الموجودة في العالم، وعلاقتها بكيفية السيطرة والهيمنة في العالم.
يستعرض المقال، الذي كتبه عالم السياسة الأميركي والكاتب ورجل الأعمال إيان آرثر بريمر -الذي يركز في أبحاثه على المخاطر السياسية العالمية- تاريخ النظام العالمي منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية، التي أسفرت عن نظام ثنائي القطبية، أحد أقطابه أميركا والآخر الاتحاد السوفياتي السابق، ثم النظام أحادي القطبية، الذي هيمنت عليه أميركا بعد نهاية الحرب الباردة مطلع التسعينيات.
بعد ذلك، يقول بريمر الذي أسس وترأس شركة الأبحاث والاستشارات في مجال المخاطر السياسية والتي تُسمى “مجموعة أوراسيا”، ومؤسس شركة “جي زيرو ميديا” (GZERO Media) أيضا وهي شركة وسائط رقمية، إنه منذ نحو 15 عاما تغيّر العالم مرة أخرى، وأصبح الأمر أكثر تعقيدا.
عالم بلا أقطاب
ويستمر الكاتب ليقول إن الولايات المتحدة أصبحت أقل اهتماما بوضع قواعد لتسيير العالم، وبكونها شرطته الضابطة ومهندسة التجارة العالمية، وحتى المشجعة للقيم العالمية، وأصبحت البلدان الأخرى، التي أصبحت أكثر قوة، قادرة بشكل متزايد على تجاهل القواعد التي لا تعجبها، وفي بعض الأحيان تضع بعض القواعد بنفسها. وأطلق الكاتب مصطلح “جي-زيرو” (G-Zero) على هذا العالم، قائلا إنه عالم غير قطبي من دون قادة عالميين.
وأضاف أن عالم اليوم يتسم بركود جيوسياسي، إذ لم يعد الهيكل العالمي يتماشى مع ميزان القوى الأساسي، وقد تسببت 3 أشياء في هذا الركود:
أولا: لم يتم ضم روسيا إلى النظام الدولي الذي يقوده الغرب. أصبحت روسيا الآن، بصفتها قوة عظمى سابقة في حالة تدهور خطير، غاضبة للغاية، وترى الغرب خصمَها الأساسي على المسرح العالمي.
ثانيا: تم إدخال الصين في المؤسسات التي تقودها الولايات المتحدة، ولكن على أمل أن يصبح الصينيون أكثر أمركة (Americanism) بعد اندماجهم، غير أن الصينيين -كما اتضح- لا يزالون صينيين، والولايات المتحدة ليست مستعدة لقبول ذلك.
وثالثا: تجاهلت الولايات المتحدة وحلفاؤها عشرات الملايين من مواطنيهم الذين شعروا بأنهم تخلفوا عن الركب وازدادت مظالمهم بسبب العولمة.
الركود السياسي سمة هيكلية للمشهد الجيوسياسي
وقال بريمر إن كل الأزمات الجيوسياسية التي نراها في عناوين الأخبار كل يوم (الحرب في أوكرانيا، المواجهة حول تايوان، التوترات النووية مع إيران وكوريا الشمالية) جميعها تقريبا سببها الركود الجيوسياسي الناجم عن القضايا الثلاث. وبعبارة أخرى، يقول الكاتب إن الأزمات لا تتعلق بالقادة الأفراد، بل هي سمة هيكلية للمشهد الجيوسياسي في العالم.
ومضى يقول إن هذا الركود الجيوسياسي لن يدوم، وإن النظام العالمي القادم سيكون شيئا مختلفا تماما عما اعتدنا عليه.
لم نعد نعيش في عالم أحادي القطب أو ثنائي القطب أو متعدد الأقطاب، لأنه لم يعد لدينا قوى عظمى متعددة الأبعاد، فالولايات المتحدة والصين اليوم ليستا قوتين عظميين، وعدم وجود قوى عظمى يعني عدم وجود نظام عالمي واحد. واليوم، بالفعل، لدينا أنظمة عالمية متعددة، منفصلة ولكنها متداخلة.
ويوضح بريمر أنه لدينا نظام أمني أحادي القطب، قطبه الولايات المتحدة، التي أصبح دورها الأمني في العالم اليوم أكثر هيمنة مما كان عليه قبل عقد من الزمان، وهي القوة الأمنية العظمى الوحيدة في العالم، وستظل كذلك على الأقل خلال العقد القادم.
نظام اقتصادي متعدد الأقطاب
لكن القوة العسكرية لا تسمح لواشنطن بوضع قواعد للاقتصاد العالمي، لأن النظام الاقتصادي العالمي متعدد الأقطاب. صحيح أن الولايات المتحدة تتمتع باقتصاد قوي وديناميكي، ولا يزال الأكبر في العالم، ولكن القوة العالمية هنا تتشاركها دول كثيرة، مشيرا إلى أن الولايات المتحدة والصين تعتمدان على بعضهما بعضا اقتصاديا بدرجة كبيرة بحيث يتعذر فصلهما عن بعضهما بعضا، والاتحاد الأوروبي يُعد أكبر سوق مشتركة في العالم، وهو قادر على وضع القواعد والمعايير التي يجب على الأميركيين والصينيين والآخرين قبولها كثمن للتعامل معه، ولا تزال اليابان قوة اقتصادية عالمية، واقتصاد الهند ينمو بسرعة، وينمو معها تأثيرها على المسرح العالمي.
وستستمر الأهمية النسبية لهذه الاقتصادات وغيرها في التحول خلال العقد القادم، ولكن ما هو مؤكد هو أن النظام الاقتصادي العالمي كان وسيظل نظاما متعدد الأقطاب.
توترات بين الأمني والاقتصادي
ويوضح الكاتب أن بين النظامين الأمني والاقتصادي توترات، إذ تريد أميركا تحديد المزيد والمزيد من مجالات الاقتصاد باعتبارها بالغة الأهمية للأمن القومي، وتضغط على الدول الأخرى لمواءمة سياساتها وفقا لذلك، ومن جانبها تريد الصين استخدام نفوذها التجاري لزيادة نفوذها الدبلوماسي، وتريد أوروبا والهند واليابان ودول أخرى ضمان عدم سيطرة النظام الأمني أو الاقتصادي على الآخر، وستنجح على الأرجح.
نظام عالمي جديد لا سابق له
وينتهي بريمر إلى القول إن هذين النظامين الأمني والاقتصادي هما النظامان العالميان الموجودان بالفعل، وهناك نظام ثالث سريع الظهور سيكون له قريبا تأثير أكبر من الأنظمة الأخرى، وهو النظام الرقمي، وهو على عكس أي نظام جيوسياسي آخر في الماضي والحاضر، فإن الجهات الفاعلة المهيمنة فيه والتي تضع القواعد وتمارس القوة ليست هي الدول أو الحكومات، بل شركات التكنولوجيا.
ويمكن القول، على سبيل المثال، إن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ما كان ليكون في السلطة اليوم لولا شركات التكنولوجيا وقوتها في النظام الرقمي الجديد. وسيكون لشركات التكنولوجيا دور حاسم في نتائج الانتخابات في كل البلدان، وفي الترويج أو عدم الترويج لنظريات المؤامرة، وقيام الثورات وحركات التمرد أو تثبيطها، وهي التي تقرر كيفية عيشنا، وما نؤمن به، وما نريده، وما نحن على استعداد للقيام به للحصول عليه.
3 سيناريوهات للنظام الرقمي
ولكن كيف ستستخدم شركات التكنولوجيا قوتها المكتشفة حديثا؟ هناك 3 سيناريوهات محتملة: إذا اصطفت شركات التكنولوجيا مع حكوماتها المحلية، فسننتهي إلى حرب تكنولوجية باردة بين الولايات المتحدة والصين. سينقسم العالم الرقمي إلى قسمين، وستضطر البلدان الأخرى إلى اختيار أحد الجانبين، وستتفتت العولمة لأن هذه التقنيات الإستراتيجية المنفصلة تصبح مرتفعات مسيطرة على الأمن القومي والاقتصاد العالمي.
أما إذا التزمت شركات التكنولوجيا بإستراتيجيات النمو العالمية، ورفضت التوافق مع الحكومات، والحفاظ على الفجوة القائمة بين مجالات المنافسة المادية والرقمية، فسنرى عولمة جديدة: نظام رقمي معولم. ستبقى شركات التكنولوجيا ذات سيادة في الفضاء الرقمي، وتتنافس إلى حد كبير مع بعضها بعضا من أجل الأرباح، ومع الحكومات من أجل القوة الجيوسياسية، إلى حد كبير بالطريقة نفسها التي تتنافس فيها الجهات الحكومية الرئيسية حاليا على النفوذ في الفضاء حيث تتداخل الأوامر الاقتصادية والأمنية.
ولكن إذا أصبح الفضاء الرقمي نفسه هو الحلبة الأكثر أهمية لمنافسة القوى العظمى، مع استمرار قوة الحكومات في التآكل بالنسبة لقوة شركات التكنولوجيا، فإن النظام الرقمي نفسه سيصبح النظام العالمي المهيمن. وإذا حدث ذلك، فسيكون لدينا عالم ما بعد ويستفالي -وهو النظام السياسي في القانون الدولي الذي يكون فيه لكل دولة سيادة حصرية على أراضيها ومحتكرة للقدرة على شن الحرب- سيكون لدينا نظام تكنوقطبي (technopolar) تهيمن عليه شركات التكنولوجيا بوصفها لاعبة أساسية في الجغرافيا السياسية للقرن الـ21.
كل هذه السيناريوهات الثلاثة معقولة تماما، ولا أحد بينها حتمي. ويعتمد الأمر الذي سننتهي فيه على كيفية قيام الطبيعة المتفجرة للذكاء الاصطناعي بإحداث تغييرات في هياكل السلطة الحالية، وما إذا كانت الحكومات قادرة وراغبة في تنظيم شركات التكنولوجيا، والأهم من ذلك كيف يقرر قادة التكنولوجيا أنهم يريدون استخدام قوتهم المكتشفة حديثا.