إحصائية : 70 الف ، نوري ، في الأردن !
محاط بأسوار عاليه تمنع دخول الأغراب إليه، كما تمنع خروج أبنائه منه. ورغم أنهم يتمتعون بكامل حقوق المواطنة ويحوزون جوازات سفر أردنية وبطاقات أحوال مدنية ويمارسون حقوقهم الدستورية كاملة، فهم منسلخون عن المجتمع الأردني، عصيون على الاندماج وغامضون.
يؤرّخ لوجود النّوَر في الأردن منذ ما يقرب من 250 عاماً. تقول الروايات التاريخية ان أصولهم تعود إلى ولاية (بيهاد) الهندية التي أرسل ملكها في القرن الخامس الميلادي إلى صهره ملك الفرس عشرة آلاف مطرب وعازف مع نسائهم وأبنائهم، بناء على طلب الأخير لذي أراد إسعاد شعبه بإقامة حفلات الرقص والغناء. منحهم الملك أراضي وبذوراً، ومُنح كل منهم حماراً. ولأنهم الغارقون في الرقص والغناء، انصرفوا عن الزراعة حتى نفدت المؤونة التي منحهم إياها الملك، فطردهم عندما عادوا يطلبون المزيد، لتبدأ رحلة التشتت والرحيل غير المنقطع.
من أطراف الهند أم من بنيو مرّة
وتقول الرواية التاريخية انهم رحلوا على ثلاثة أقسام، القسم الأول ارتحل صوب الجنوب الغربي نحو بلاد الشام ومنها إلى مصر وشمال إفريقيا، القسم الثاني أرتحل شمالا إلى المناطق التي تشكل اليوم أرمينيا وجورجيا، بينما واصل بعضهم الرحلة وصولاً إلى اليونان، وارتحل القسم الثالث إلى أسيا الصغرى ومنها إلى وسط وغرب أوروبا وصولاً إلى البرتغال واسبانيا.
يرفض نوَر الأردن هذه الرواية التاريخية ، ويقدمون روايتهم التي تؤكد أنهم عرب أقحاح ينتسبون الى «بني مرّة» الذين انتقم منهم الزير سالم، وأمر بتشتيتهم في الأرض وحكم عليهم ألا يركبوا الخيل وألا يذوقوا طعم الراحة والأمن والاستقرار، وهو ما كان.
يسجل النّوَر تاريخ شقائهم ورحيلهم الدائم بترنيمة مشهورة يواصلون ترديدها ، تقول «انا ابن الريح والشمس… قدري هو الرحيل الدائم، والحزن الأبدي مكتوب على جبيني… امي الريح لا تستقر في أي مكان وتحملني معها… وأمي الشمس تشرق على بقعة ارض في أقصى العالم لتغيب عنها وتطلع على غيرها ثم تعود إليها في رحلة لا تنتهي». لم ينته الرحيل للآن، غير أن الحدود فرضت شروطها، وبعد ان كان محكوماً بالريح أصبح محكوماً بما تبقى من مساحات لم يغزها الاسمنت، تكفي لبناء خيامهم أو «خرابيشهم» كما يطلق عليها في الأردن.
على أسوار عالم النوَر
من خلال ثقوب في الأسوار التي أحاط بها النّوَر عالمهم الغارق بالحجب وقراءة الطالع وضرب الودع، تتسلل ملامح من العالم الأسطوري الذي يعيشون فيه. هُناك، لم يتغير شيء منذ قديم الزمان، النساء يواصلن ارتداء الملابس الفضفاضة المزركشة، ويتخذن زينة من الحلي المختلفة الأشكال بشكل كثيف ولافت، ويتمسكن بوضع الحلقات الفضية الكبيرة على آذانهن، ويواصلن إسبال الشعر الأسود على الجانبين.
وهناك، لم تفقد النساء قدرتهن على الرقص والغناء الذي يمتد حتى صباحات ليالي السمر، ليالي تنتهي بانطلاقهن وهن الجميلات، لممارسة التسول والنشل أحياناً، ليتمكّن من إعالة عائلاتهم في مجتمع يعتبر عمل الرجل عاراً على زوجته. ومن جلب العار لزوجته وعمل، فقد عمل سابقاً في مهن ظلت حكراً على النّوَر كجلخ السكاكين وصناعة محفار الكوسا وفخاخ العصافير وطلاء النحاس وتلميعه وتركيب اسنان الذهب والفضة والعظم… مهن انقرضت أو أوشكت على الانقراض، ليحل محلها بيع البلاستيك وعلب الألمنيوم وجمع الخبز وتنشيفه لبيعه لأصحاب الأغنام.
يتمسك النّوَر بأصولهم وأنسابهم ويرفضون الاختلاط بأنساب غيرهم، فلا يتزوجون من خارج أسوار عالمهم، ولا يزوجون الى الخارج. ويتمسك النّوَر بـ «لغة العصافير» في التخاطب في ما بينهم، وهي خليط من التركمانية والهندية والكردية والأردية.
لم يتغيروا إلا بمقدار ما فُرض عليهم التغيير، فالتحق حديثاً بعض أبنائهم بالمدارس والجامعات، وعمل القليل منهم بوظائف في القطاعين العام والخاص، وقلة أيضاً منهم سكنت البيوت الاسمنتية بعد ان تضاءلت المساحة المتاحة لنصب خرابيشهم. ولم تتغير النظرة إليهم، فما زالت كلمة «نَوري» شتيمة في معجم المجتمع الأردني.
السفير