فضيحة سياسية في إسرائيل: ضغوط نتنياهو وكاتس وراء اعتقال المدعية العسكرية

باعتقال المدعية العسكرية العامة الجنرال يفعات تومر يروشالمي، تفجرت في إسرائيل قضية سياسية وأمنية وأخلاقية من الدرجة الأولى، تكشف عن الوجه الحقيقي للمجتمع الإسرائيلي. إذ إن اختفاء المدعية العامة لساعات وترك رسالة في سيارتها توحي بأنها قد تكون أقدمت على الانتحار أسهم في إعطاء القضية أبعادا مأساوية بعد أن كانت قد أظهرت حجم التناقضات داخل المجتمع ومؤسساته الأمنية والعسكرية. وكانت القصة قد أخذت أبعادا خطيرة عندما استقالت يروشالمي نهاية الأسبوع الفائت من منصبها، بعد أن اعترفت بعلمها بتسريب فيديو تعذيب واغتصاب أسير فلسطيني في معتقل سدي تيمان.

وقد اختفت آثار يروشالمي لساعات طويلة أول أمس الأحد، قبل أن يعُثر عليها في المساء، ولكن ليس قبل أن تنتشر إشاعات عن انتحارها بعد العثور على سيارتها مهجورة في منطقة معزولة قرب شاطئ هرتسليا. وسرت مخاوف على حياتها جراء تعرضها لضغوط وانتقادات شديدة الأيام الأخيرة، وبسبب أنه كانت فرضت عليها حماية شخصية منذ منتصف العام الفائت، بسبب قضية شريط سدي تيمان. ووفقا لمصادر مختلفة، تركت يروشالمي قبل اختفائها رسالة قصيرة لأفراد عائلتها، تضمنت بضع جمل توحي بأنها قد تنتحر. ولذلك تواصلت عائلتها مع الشرطة، التي بدأت عملية بحث، بمساعدة الجيش الإسرائيلي، الذي استخدم وحدات بحرية وطائرات تصوير حراري من دون طيار ووحدات إضافية للمسح.

وكانت قضية شريط التعذيب قد أشغلت الإعلام والحلبة السياسية في إسرائيل، بسبب مدى وحشية ما يجري، وانتقال السجال من مناقشة الوحشية إلى البحث عن مسربي هذا الشريط. ووقف قادة اليمين الإسرائيلي الحاكم في الغالب ضد تسريب الشريط وصولا إلى اعتباره “فرية دم” جديدة، مدعين أن من قاموا بالتعذيب أبرياء لا تنبغي محاكمتهم. وبلغ الأمر برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو -المطلوب للجنائية الدولية- أن يعتبر الشريط “أشد عملية تخريب دعائية تشهدها إسرائيل منذ تأسيسها”. وثمة من يعتقدون أنه كان وراء تطور القضية تعيين الجنرال اليميني ديفيد زيني رئيسا للشاباك، الأمر الذي قاد إلى تطور التحقيق نحو استجواب عدد من كبار ضباط الجيش الإسرائيلي ومصادرة وثائق وهواتف بعد أن ثبت تخطيطهم لتسريب الشريط. وكانت ذروة الخلاصة أن المدعية العامة العسكرية كانت على علم بأمر التسريب ومعها ضباط على أعلى مستوى في الجيش ووجوب استجوابهم.

إفادة كاذبة
ووصلت القضية إلى المحكمة العليا، حيث قدمت المدعية العسكرية يروشالمي إفادة تشهد باستحالة التعرف على مسرب الشريط نظرا لكثرة من كانوا على إطلاع عليه. وهذا ما دفع الشرطة الإسرائيلية إلى الاشتباه بأنها قدمت إفادة كاذبة وأنها خانت الأمانة المهنية. وحسب القناة الـ13 في التلفزيون الإسرائيلي، تم احتجاز يروشالمي في معتقل النساء في ظروف مشددة، حيث وضعت في زنزانة منفردة ومعزولة. وبعد العثور على يروشالمي، أثيرت شكوك وتساؤلات حول هاتفها الجوال الذي لم يُعثر عليه معها ولا في السيارة التي تركتها. وكان آخر مكان للهاتف في المنطقة نفسها التي عُثر فيها على السيارة، ثم أُغلق، وتحقق الشرطة أيضا في احتمال وجوده معها عند اختفائها، وإذا ما كان قد أُلقي في البحر. ويحتوي الهاتف على مراسلاتها مع كبار ضباط الادعاء العسكري بشأن تسريب الفيديو.

ويروشالمي التي وجدت نفسها في قلب عاصفة تهزّ النظام القضائي العسكري والمدني في إسرائيل ليست مجرد ضابطة في الجيش، بل هي المرأة الثانية في تاريخ الجيش الإسرائيلي التي تحمل رتبة لواء، والأولى التي تتولى في تاريخه منصب المدعي العسكري العام. وتبلغ يروشالمي من العمر 51 عاما، وقضت خدمتها العسكرية منذ التحاقها بالجيش عام 1996 في مكتب الادعاء العسكري. وتدرجت في المناصب من مساعدة أولى للمدعي العام العسكري، ومساعدة قانونية للمدعي العام العسكري، ونائبة المدعي العام للقيادة المركزية، ورئيسة فرع الرقابة القانونية، ورئيسة فرع التشريع والاتصالات. وقد تخرجت في كلية القيادة والأركان الإسرائيلية كما تحمل درجة ماجستير في القانون من كلية القانون العسكري في شارلوتسفيل الأميركية بمرتبة الشرف، وتولت منصب المدعي العسكري العام في يوليو/تموز 2021.

الخائنة
وفي يوليو/تموز 2024، شُدّدت الحراسة الأمنية على يروشالمي، عقب التحريض ضدها بعد اعتقال جنود احتياط للاشتباه في اعتدائهم على أسير فلسطيني، في ما عُرفت لاحقا بـ”قضية سدي تيمان”. في ذلك الوقت، نُظمت مظاهرات أمام منزلها، حيث اتهمت من بين أمور أخرى، بـ”الخائنة” و”حامية النخبة”، في إشارة لقوات نخبة حماس. ومعروف أن هذه القضية بدأت عند اعتقال عدد من جنود الاحتياط، بينهم ضابطان من القوة 100، للاشتباه بإساءتهم معاملة أسير فلسطيني وتعذيبه، ومن ذلك اغتصابه وصعقه كهربيا وهو مقيد إلى درجة الاضطرار لنقله إلى المستشفى.

وفي أغسطس/آب 2024، نشرت القناة الـ12 الإسرائيلية مقطع فيديو يظهر جنودا من الجيش في معسكر “سدي تيمان” -الذي تحول إلى معتقل- وهم يعذبون معتقلين فلسطينيين. فأعلنت قيادة الجيش أن الفيديو المنشور “مطبوخ” وخضع لتلاعب وتعديلات. لكن إحدى المنظمات اليمينية رفعت دعوى تطالب فيه بالتحقيق في هوية مسرب الفيديو مدعية أنه يعرض الجنود للخطر، ويشوه صورة إسرائيل في العالم. وكُشف لاحقا أن الفيديو سُرّب من داخل منظومة الجيش، وأن المعلومات حول مصدره أدّت إلى شكوك في جهات داخل مكتب المدعي العام العسكري نفسه. حينها ولأول مرة في تاريخ دولة إسرائيل، واجهت قوات إنفاذ القانون عنفا شديدا ومنظما بدعم من الحكومة. إذ اقتحم مسلحون -بدعم من أعضاء الكنيست– قاعدتين عسكريتين بعنف، إحداهما المحكمة العسكرية. وتعرض المحققون والشرطة العسكرية للضرب والاعتداء.

والأربعاء الفائت، أعلنت المستشارة القانونية للحكومة غالي بهاراف-ميارا فتح تحقيق جنائي في تسريب الفيديو من معسكر سدي تيمان. وأفاد بيان صادر عن الجيش بأنه بعد انتهاء التحقيق الأولي، أُخرجت الجنرال يروشالمي في إجازة، إذ صار من المؤكد أنه سيتم استجوابها والتحقيق معها. فقدمت استقالتها من منصبها، وفي كتاب الاستقالة أقرت لأول مرة بأنها أذنت بتسريب الفيديو، مبررة ذلك “بصد الدعاية الكاذبة” التي وُجهت إلى مكتب المدعي العام العسكري عقب التحقيق مع جنود الاحتياط.

وهنا أخذت الأمور منحى آخر عندما أعلن وزير الدفاع يسرائيل كاتس إقالتها قبيل نشر خطاب استقالتها، وأنه سيتم اتخاذ جميع “العقوبات اللازمة، وفي مقدمتها إلغاء الرتب، ضد المدعية العسكرية”. وأضاف: “كل من ينشر افتراءات دموية ضد جنود الجيش الإسرائيلي ويفضل مصلحة إرهابيي النخبة عليهم، مكانه السجن”. ولكن على النقيض من كلام كاتس بشأن “التشهير”، فإن لائحة الاتهام تنسب للجنود المعتقلين ارتكاب جرائم خطيرة، استنادا إلى توثيق كامل من معسكر “سدي تيمان” مدته أكثر من 15 دقيقة، ويُظهر ارتكاب “أفعال خطيرة” ضد أحد المعتقلين.

ومنذ تفجر القضية مجددا، تعرضت يروشالمي لتحريض شديد على وسائل التواصل الاجتماعي، من بين أمور أخرى، على خلفية تصريحات الوزراء، حيث وجه إليها مستخدمو الإنترنت من اليمين اتهامات قاسية، ودعوا حتى إلى إعدامها. وحسب جارة يروشالمي: “لمدة عام وبضعة أشهر، قتلوا هذه المرأة باحتجاجاتهم وشتائمهم. كانوا يقفون هنا ويسبونها، والآن تتحدث عنها وسائل الإعلام منذ 3 أيام. لقد قتلوها. إنها أم لأطفال وأكثر شخص أعرفه أخلاقا. حتى لو أخطأت، فسيتم التحقيق معها ومحاكمتها. نحن جميعا معها منذ اليوم الأول، مهما فعلت”.

وكتبت المراسلة السياسية لمعاريف، آنا بارسكي، “لحسن حظ الجميع، كانت النهاية سعيدة. لكن في ساعات القلق الوطني، بدا وكأننا ننظر في المرآة: ليس سؤالا مهنيا آخر عن صلاحيات عضو البرلمان، بل عن انهيار شخص تحت ضغط لاإنساني، بعد هجوم شعبي وسياسي- هجوم آخر من نفس النوع المألوف، الذي لم يعد من الممكن وصفه بأنه استثنائي أو غير مسبوق. يفعات تومر-يروشالمي ليست شخصية عامة بالمعنى المعتاد. إنها امرأة، وأم، ومحامية، وضابطة وجدت نفسها في مرمى نيران السياسيين والأستوديوهات والشبكات. تحدث عنها وزراء الحكومة كما لو كانت منافسة سياسية. سعى أعضاء الكنيست إلى عناوين رئيسية لها. حوّلتها مقالات الرأي إلى رمز أو عدو”. ورأت بارسكي أن القصة هنا ليست “ذنبا” أو “عدالة”. إنها قصة “ثقافة السم”، التي تنتشر وتُدمر كل جانب جيد منها على جانبي السياج، من دون تمييز سياسي.

تسريبات نتنياهو في المقابل
أما بن كسبيت، أيضا في معاريف، فربط بين تسريب فيديو سدي تيمان وتسريبات رجال نتنياهو الزائفة للصحافة الدولية، وقال إن “كل ما كان على المدعية يروشالمي فعله للانتقال من قائمة العار إلى قاعة المشاهير هو تسريب ذلك الفيديو إلى صحيفة بيلد بدلا من غاي بيليغ (مراسل القناة الـ12). ففي النهاية، هذا بالضبط ما فعله أقرب المقربين من رئيس الوزراء الإسرائيلي، على ما يبدو بعلمه وموافقته. في الواقع، ليس تماما. حقا ليس تماما. إن فعل أوريش وأينهورن وفيلدشتاين، الذي تم بعلم ودعم نتنياهو، كان أخطر بكثير من فعل المدعية”. وأضاف: “لم تسرق المدعية المواد التي سربتها من صميم أسرار جهاز المخابرات العسكرية، دون علم الجيش الإسرائيلي. كما أنها لم تتجاوز الرقابة. لم تُزيّف ملفات أو تُصنّع فيديوهات، وكان من ضمن صلاحياتها نشر مثل هذه المواد. وقد وافق الرقيب العسكري على النشر على القناة الـ12. كما أنها لم تُعرّض حياة البشر والمقاتلين والرهائن للخطر، ولم تُؤدِّ إلى فقدان أدوات استخباراتية قيّمة. كل هذا تم بفضل ذلك التسريب لصحيفة بيلد، الذي كان الهدف منه، كما نتذكر، تنفيذ ’عملية تأثير‘ على الرأي العام الإسرائيلي، الذي استشاط غضبا من مقتل الرهائن الستة في أنفاق حماس”.

في كل حال يصعب عدم الربط بين قضية يروشالمي وفيديو التعذيب في سدي تيمان وبين الصراع الذي تخوضه حكومة اليمين ضد من يعرفون في إسرائيل بـ”حراس البوابة” من الموظفين العموميين في المناصب العليا. وهم يريدون أصحاب مناصب مفصّلين على مقاسهم، مثل الجنرال اليميني ديفيد زيني رئيسا للشاباك، بعد نجاحهم في الإطاحة برئيس الأركان السابق ورئيس الشاباك السابق ورئيس لجنة الخارجية والأمن في الكنيست وقرارهم إقالة المستشارة القضائية للحكومة. كما أنهم -عبر وزير الدفاع كاتس- يريدون السيطرة على قيادات الجيش عبر تعيينات خاصة تحقق لهم وصول من يقولون نعم لسياساتهم. وهذا في نظرهم ما سيغير وجه إسرائيل ليعكس صورة بن غفير وسموتريتش ونتنياهو، وهو ما يحاول خصومهم منع حدوثه. ما يجري مع يروشالمي جزء من القصة التي تتصاعد مشاهدها إثارة مع مرور الوقت.