زوجة الشهيد أنس الشريف: قلبي يتآكل.. من يعيده إليّ؟
وكالة الناس – تسلل أنس في قلب الليل بلا موعد مسبق حيث رُكنه الآمن في آخر جمعة وآخر اجتماع، زيارة مفاجئة بعد غياب لأكثر من شهر، باغت فيها زوجته التي وجدته أمامها بذراعيه المُشرعتين كأنهما العالم بأسره، حسب تعبيرها.
على غير العادة هرول إلى طفليه وأصر على إيقاظهما، ثم حمل كل واحد منهما بين يديه، يقذفه في الهواء ثم يتلقّفه ويحتضنه بقوة، يدور بهما مرارا كأنما يُخزّن من ضحكاتهما ما يكفيه للغياب القادم.
تنقّل أنس بين الأرائك وتمدد على الأرض، ثم استلقى على السرير فاتحا ذراعيه، كان جسده مرهقا، لكن لأول مرة يُفصح عن ذلك، “تحدثنا طويلا، كانت ملامحه تشي بإنهاك لم أره منه قط، لأول مرة يعبّر عن شوقه لراحة ولعيشة بسيطة خالية من القلق والتهديد”، تقول زوجته بيان.
اللقاء الأخير
لأول مرة أنس بلا هواتف ولا مقاطعات ولا أخبار عاجلة، لا يحمل شيئا سوى مشاعره التي يحوم بها في أرجاء البيت كفراشة تنثر دفئها بين الغرف، وفي عينيه سكون عميق، وفي حضنه وداع مكنون، وبينما هو كذلك علا صوت داخل بيان “هل هو اللقاء الأخير؟” لكنها خنقته، وأقنعت نفسها بأنه الشوق، لا الوداع.
بعد ساعات همّ أنس بالمغادرة، كل خطوة كان يبتعد فيها عنها كانت تشعر كأن سكينا ينغرس في قلبها، وحين بلغ الباب، التفت إليها وقال مبتسما “موعدنا يوم ميلادك، راجع وفي يدي هدية لك”، ضحكت بيان على استحياء فهي تعلم أنه كان يصنع من مناسباتها طقسا مقدسا، وشيعته بنظراتها حتى اختفى.
مر يومان على هذا اللقاء حتى جاء يوم ميلادها في 14 أغسطس/آب الجاري على هيئة يوم عزاء، لم يأتِ فيه أنس بهديته، بل عاد محمولا على الأكتاف بلا صوت ولا هدية ولا مفاجأة ولا عناق.
دقيقةٌ واحدة فقط هي المهلة التي مُنحت لبيان كي تودع حبيبها وداعا أخيرا، صاحت فيهم “افتحوا الكفن أريد أن أرى وجهه وأقبل وجنتيه”، لكن من حولها رفضوا، فأنس “بلا عينين”، تجهش بالبكاء وهي تتحسسه من فوق الكفن، “جسده بارد، لحمه طري”.
دقيقةٌ واحدة لم تتمكن فيها إلا من أن تهمس في أذنه سؤالا واحدا “أين وعدك لي بأن نموت معا كي لا يتحسر أحدنا على الآخر؟ لم نتفق على هذا يا حبيبي، ألم تعدني بالرجوع يوم ميلادي؟!”، همست بيان بعتبها، ثم رفعوه من أمامها وحملوه لمثواه الأخير.
التقت الجزيرة نت بيان الشريف زوجة الصحفي الشهيد مراسل قناة الجزيرة أنس الشريف في يوم ميلادها، الذي صار له تأريخ جديد بوصفه يوم عزاء لأغلى من تملك، جلست أمامنا بجسد منهك وعينين متورمتين ورأس مائل يُثقله الوجع، لم تأتِ الهدية، بل جاء الوداع قاسيا ومباغتا كالموت نفسه.
هوس الفقد
“رح نكسر ظهرك بزوجتك وأطفالك يا أنس، لقد عرفنا مكانهم وسنقتلهم”، كان هذا الشكل الجديد للتهديد الأخير الذي تلقاه أنس في اتصال من جيش الاحتلال الإسرائيلي، عاش بعده هوس الفقد كما تقول زوجته، حيث طلب منها مغادرة المنزل بشكل فوري، فقد بدا التهديد بقتل عائلته مباشرا وجادا.
قلقٌ حمله أنس حتى الرمق الأخير، فقبل الغارة بخمس دقائق، هاتفها وقد كان في صوته شجن خفي لكنه بادٍ لها، “مش عارف أقعد يا بيان خايف عليكم، أهرب للتغطية لكن عقلي مشغول بكم”، ثم باغتها بطلبه “عليكم أن تغادروا غزة لجنوب القطاع، إذا وضعت الحواجز بين الشمال والجنوب، لن تمري بسلام، سيبتزونني بكم والموت أهون عليّ من ذلك”.
لكن ككل مرة رفضت بيان رفضا قاطعا طلبه، “يمكنني فعل أي شيء إلا أن أبتعد عنك، انزع الفكرة من رأسك”.
خمس دقائق فاصلة بين إغلاقها الهاتف والغارة، حاول فيها أنس عبثا إقناع زوجته بالخروج إلى وسط القطاع تحسبا لأي هجوم بري على مدينة غزة، محاولات لم تجد نفعا مع بيان التي كانت قد رفضت مسبقا عدة فرص لخروجها من القطاع.
“ما سبب رفضك المتكرر للخروج؟”، سألناها، فأجابت باستنكار “أنس كل حياتي، كيف أحرمه من رؤية أبنائه في هذه الظروف إن اشتاق لهم، وقد كانت رؤيتهم بالنسبة إليه متنفسا؟ كيف سأهنأ بالبعد خارج القطاع وأتركه يعيش بؤس الحرب على الأرصفة والشوارع وحده؟”.
وُلد بطل القصة أنس الشريف في 3 ديسمبر/كانون الأول 1996، لأسرة من 7 إخوة كان أصغرهم، تزوج قبل 5 أعوام ولديه طفلان، شام ابنته الكبرى (5 أعوام) وقد كان لها النصيب الأوفر من الحب والدلال حتى إنه جعلها مبتدأ الوصية التي كتبها قبيل استشهاده، “لقد عاش ومات وهو يوصيني بها”، تقول بيان.
أما طفله الثاني صلاح فهو وليدُ الحرب وعمره عام ونصف العام، بدأ مؤخرا بالتعرف على وجه أبيه والتعلق به، وبدأ لفظ “بابا” يتدحرج على شفتيه حتى انتزعه الموت من حجره ليغدو وحيدا قبل أن يتنعم بدلاله، تقول بيان “لو أردت عدّ الأيام التي اجتمع فيها أنس بصلاح فلن تتم نصف الشهر”، أما اليوم وبعد فقده فلا مُهدّئ له حين يلح بالنداء على أبيه سوى صورهما معا، ومقاطع أنس المصورة التي يسمع فيها صوته ثم يسكن بعدها.
شام وأنس
خلال مقابلتنا، دخلت طفلته شام بوجه غابت عنه الابتسامة، ارتمت في حضن أمها بذهول وملامح متجمدة، تقول بيان إنها أصرت على الذهاب إلى خيمة والدها للبحث عنه، فلم تجدها ولم تجده، سألت عنه، فأجابتها بيان “في الجنة مع جدّك”، لتمسك الهاتف وتبدأ بالإلحاح على أمها تريد سماع صوته.
قالت لها والدتها “بابا تعبان يا ماما، لم يأخذ معه هواتفه إلى هناك حتى يستريح”، يبدو أن الرواية لم تكن مقنعة لشام تماما كعدم اقتناعها بأن من دخل إليهم محمولا حين الوداع هو والدها؛ فهي لم ترَ وجهه، غير أنها علقت حينها “بابا له قدمان ويستطيع المشي”.
تضيف بيان “كانت شام تسأل أنس دوما لماذا لا تعيش معنا، فيجيبها بأن الاحتلال يريد قتله، فتعانقه وتمسح وجهه بكفيها وتقول له لا تخف يا بابا لن يقتلوك”.
درس أنس تخصص الإذاعة والتلفزيون في جامعة الأقصى، ثم عمل بعدها مصورا حرا، كان يرى في عدسته نافذة لفضح جرائم الاحتلال بحق أبناء شعبه، ومع بدء العدوان على غزة، بدأ بالعمل بشكل تدريجي في قناة الجزيرة حتى صار مراسلها في القطاع.
كان قرار الانضمام لطاقم الجزيرة بمثابة تحدٍ لأنس، دفعته إليه زوجته التي كانت تراه قادرا على إيصال الصورة وتغطية الأحداث بشكل أمثل، تقول بيان “حتى قبل انضمام أنس للجزيرة كان صاحب رسالة مفعما بالحيوية، طموحا ومخلصا وعنيدا لا يخاف، وبعدها رأى أن الله قد منحه منبرا ليكون صوت المظلومين، وعليه أن يبلي فيه بلاء حسنا”.
وحين بدأت التهديدات تنهال عليه، كانت بيان تعينه على قلقه، “بحذر وبلا مخاطرة يا أنس، وتذكّر أننا بحاجة إليك دوما وعائلتك”، فيجيبها “الله الحامي، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا”.
“زوجك مفخرة”
22 شهرا عاشت فيها بيان القلق والاشتياق والبعد والخوف والحاجة مع طفليها وأب حاضر غائب، “كل ما كنت ألقاه من ضغط نفسي كان يتلاشى بلقائه وقربه وكلماته التي تهوّن عليّ ما أجد، كان هو دافعي للاستمرار والصبر”، تصمت وعيناها ترمقان المكان “لمن تركني الآن؟ من أين سأستمد قوتي يا أنس؟”.
وبينما لم يكن يفصل بين أنس وعائلته سوى عدة دقائق وشارعين، كان اجتماعه بهم محدودا، فقد كان يخشى أن يؤذيهم بقربه وأن يُغتال وهم معه، لكن مكالماته مع أبنائه لم تكن تنقطع، “كنت أشعر بالقهر.. وأسأله دوما متى سنجتمع بأمان تحت سقف واحد بلا تهديد أو مطاردة أو استراق الوقت؟” تقول بيان.
وبينما يبدو وصف “رجل كامل” مبالغا فيه لدى الكثيرين، تجده بيان أقل وصف يستحقه أنس، وتؤكد “كان مثاليا معي ومع أمه وأطفاله وأسرته، والله ما بنلاقي (لن نجد) مثله”.
قبل 5 أيام، باغت أنس زوجته برسالة حملت وصايا كثيرة، كان أولها ألا تبكي عليه حين يرحل، ومنها أن تهتم بتعليم أطفالهما وأن تربيهما كما كان يحب، وأن تكمل دراسة الوسائط المتعددة التي اختارها لها، كما أوصاها بأمه وبالقرب منها، وختم وصيته “لقد أثبت غيابي عنكِ الفترة الماضية اقتدارك وقوتك، أنا أعتمد عليك يا بيان”.
لم يكن يهمها ما يقول بقدر ما كان يخنقها الشعور، “لا تتحدث معي هكذا أرجوك، فليمدد الله في عمرك أو لنمت معا”.
في عزاء أنس، تلتف أمهات الشهداء حول والدته، ومن مدخل سرادق العزاء تتساءل زوجات الشهداء عن مكان زوجته وهنّ لا يعرفنها، الناس هنا سواسية في دهس الفقد الذي مرّ بقلوبهن، تحكي كلّ واحدة منهن قصتها، فيهون على الواحدة منهن مصابها، لكن في قصة أنس كانت المواساة الجامعة، “ارفعي رأسك، زوجك مفخرة، تعب كثيرا وآن له أن يرتاح”.
وبينما هن كذلك، تحدق بيان في الساعة وتتسمر عيناها على صورته التي على شاشة هاتفها، تميلُ برأسها عليّ وأنا واحدة من الفاقدات القدامى، “أشعر أنه سيباغتني باتصال أو زيارة ليُكذّب ما يقولونه”، تعدل جلستها وتتمتم “قلبي يتآكل.. من يعيده إليّ؟”.